الوطن قبل الجماعة: كيف خسرنا روح الثورة؟

 الوطن قبل الجماعة: كيف خسرنا روح الثورة؟

--------------------------------------



حين اندلعت ثورة يناير، لم يكن أحد يتصور أن شرارة صغيرة ستنطلق من قلب مجموعة من الشباب المجهولين، لتتحول في غضون أيام إلى نار عظيمة تهز أركان الدولة العتيقة. هؤلاء الذين خرجوا أول الأمر لم يحملوا شعارات حزبية ولا حسابات سياسية، بل عبروا عن مطلب إنساني بديهي: حرية، وعدالة، وكرامة. كانت الميادين في تلك الأيام الأولى صورة نادرة لمصر حين تتجرد من كل ما يفرقها، وتلتقي على حلم واحد جامع.

مع اتساع رقعة الاحتجاجات، دخلت قوى منظمة إلى المشهد، وعلى رأسها الإسلاميون. كان حضورهم في 28 يناير علامة فارقة، فقد أسهموا في التنظيم وتأمين الصفوف وحماية الميدان، من دون استعلاء أو تمييز. كانت الروح ساعتها روح مشاركة لا مغالبة، والجميع يدرك أن الهدف أكبر من أي فصيل: إسقاط الاستبداد وفتح الطريق نحو مستقبل جديد.

ثم جاءت لحظة فبراير، حيث صار الميدان القلب النابض لمصر كلها. بدا التنظيم الإخواني واضحًا في إدارة المداخل والمخارج والحفاظ على السلمية والتعامل برقي مع مختلف الأطياف. المشهد كان أقرب إلى "مدينة فاضلة" صغيرة: متجانسة رغم تعددها، متماسكة في لحظتها، تعكس أوسع طيف اجتماعي وسياسي عرفته البلاد منذ عقود. حتى حين اجتمعت الوفود المعارضة للتفاوض مع عمر سليمان، تجلت هذه الروح الجامعة: ليبراليون ويساريون وإسلاميون ومستقلون، من دون أن يطغى صوت على آخر.

لكن هذه اللحظة النقية ما لبثت أن اصطدمت بالواقع. في 11 فبراير، يوم تنحي مبارك، عمت فرحة عارمة وسكرة انتصار، لكن سرعان ما برز السؤال المرير: ماذا بعد؟ من يقود؟ وكيف يُدار الوطن؟ لم يكن لدى أحد إجابة شافية. ومع استفتاء مارس حول التعديلات الدستورية، بدأت أولى علامات الانقسام. كان يومًا كاشفًا؛ فبعد أن كان الجميع صفًا واحدًا، انقسم الشعب على أسس جديدة: شعب ضد جماعة، حرية عامة ضد مطالب خاصة، وطن واسع ضد فكر منغلق.

هنا انفرط العقد. انطلقت الأسئلة التي لم نجد لها جوابًا:

  • هل الانضمام للشعب أهم أم الولاء لجماعة بعينها؟

  • هل طلب الحرية أولى أم الانصياع لأجندة تنظيم؟

  • هل التنوع قوة تبني، أم تهديد يستوجب الانغلاق؟

  • هل الوطن رحب بما يكفي للجميع، أم أن جماعة تستطيع أن تختصره في نفسها؟

تلك اللحظة كشفت أن الثورة في جوهرها كانت أكبر من أي جماعة. حين اتحد الشعب، انتصر. وحين تقاسمته الولاءات الضيقة، خسر. الحرية التي نادى بها الميدان لم تُفصَّل على مقاس فصيل، بل كانت وعدًا شاملًا للجميع. وحين تقلصت إلى مطالب تنظيمية محدودة، تراجعت الروح الثورية وتشرذمت الصفوف.

الدرس الجوهري أن الشعب هو الأصل، والجماعة مجرد فرع. الشعب حين يثور لا يمنح تفويضًا لفصيل، بل يرفع عن نفسه قيدًا عنيدًا. الحرية أوسع من أي برنامج سياسي، فهي حق أصيل للجميع، وليست منحة من حزب أو تيار. أما التنوع، فهو سر قوة المجتمعات الحية، بينما الانغلاق لا يؤدي إلا إلى عزلة وانقسام.

ولعل ما قاله الطاهر بن جلون يضيء هذه الحقيقة: "الثورة ليست مشروع حزب ولا أيديولوجيا، إنها لحظة تتجسد فيها إرادة الحياة ضد الموت، وإرادة الحرية ضد الاستبداد."1 كما يذكر علاء الأسواني في شهادته عن الميدان: "لقد تعلمتُ أن المصريين، حين تحرروا من الخوف، بدوا أجمل وأصدق وأكثر إنسانية مما تخيلت."2 هذه الكلمات تؤكد أن جوهر الثورة كان إنسانيًا شاملًا، لا حزبيًا ضيقًا.

لقد أثبتت التجربة أن أي جماعة، مهما بلغ نفوذها، لا تستطيع أن تحتكر الوطن أو تختصره في رؤيتها الخاصة. الوطن أرحب من الجميع، وأوسع من كل الجماعات مجتمعة. والثورة التي نجحت بروح الشعب لا يمكن أن تستكمل إلا بنفس الروح الجامعة.

وهكذا تبقى الحقيقة واضحة، لا يغطيها غبار اللحظات ولا ضجيج الصراعات: الوطن قبل الجماعة، الحرية قبل كل شيء، والتعددية هي الضمانة الوحيدة لبقاء الوطن حيًّا وقويًّا.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.