Boston Strangler: حين يتحول الظلام الاجتماعي إلى جريمة جماعية
ما وراء الجريمة: العتمة كلغة اجتماعية
الفيلم يتجاوز الإطار التقليدي لحكاية مطاردة قاتل مجهول، ليغوص في أعماق مجتمع مأزوم. الإضاءة الخافتة، التي اعتمدها المخرج بمهارة، لم تكن مجرد خيار جمالي لصناعة التوتر؛ بل كانت لغة بصرية تقول الكثير. لقد رسمت صورة لمجتمع بأسره يعيش في العتمة: حيث الحقائق تُطمس، والأصوات المهمشة تُخنق، والعدالة تُؤجَّل عمدًا. كان الظلام هنا ليس مجرد حالة مكانية، بل تعبير عن روح عصر كاملة.
المؤسسات في مرمى النقد: عجز أم تواطؤ؟
من بين أبرز رسائل الفيلم إدانته لترهل المؤسسات، وبخاصة الشرطة. الجهاز الذي يُفترض أن يحمي الناس بدا عاجزًا، غارقًا في صراعات داخلية ومنافسات بين الأقسام، لدرجة جعلت القاتل يواصل جرائمه بلا رادع. لم يكن الأمر مجرد قصور مهني؛ بل بدا أقرب إلى غفلة مريبة تواطأت فيها البيروقراطية مع الجريمة.
الصحافة الاستقصائية: الكلمة كسلاح ضد الظلام
ما يطرحه الفيلم بعمق أن الصحافة الحرة ليست ترفًا ديمقراطيًا، بل شرط أساسي لسلامة المجتمع. حين قصّرت المؤسسات الرسمية، تولت الصحافة مهمة الربط بين الخيوط، وإبراز أن ما يحدث ليس جرائم متفرقة، بل سلسلة متواصلة تشير إلى قاتل واحد. بهذا المعنى، لم تكن لوريتا ماكلولين (التي جسدتها كيرا نايتلي) مجرد صحفية تبحث عن سبق صحفي، بل كانت تمثل الضمير الذي يصر على مواجهة العطب البنيوي في المجتمع، حتى لو تطلب الأمر تحدي سلطة الأمن والمؤسسات المهيمنة. الفيلم هنا يذكّرنا أن الصحافة الحرة لا تكتفي برصد الواقع، بل تفضحه، وتدفعه نحو التغيير.
المرأة ضد الصمت: صحافة تكسر الحواجز
لكن البعد الأهم الذي يطرحه الفيلم هو دور المرأة في كسر هذا الصمت. من خلال شخصية ماكلولين، نتعرّف على صحفية شجاعة لم تواجه القاتل فقط، بل واجهت مجتمعًا يستخف بقدرات النساء ويقصيهن من مواقع التأثير. نضالها لم يكن فقط لكشف الحقيقة، بل لإثبات حقها في الوجود المهني وسط بيئة يهيمن عليها الرجال. أداء نايتلي وكاري كون، إلى جانب بقية الطاقم، أعطى هذه القضية بعدًا إنسانيًا مؤثرًا يتجاوز حدود الشاشة.
أصداء الماضي في الحاضر
ما يجعل "بوسطن ستراغلر" فيلمًا راهنيًا رغم كونه يتناول أحداثًا وقعت قبل أكثر من نصف قرن، هو أنه يعكس قضايا لا تزال حاضرة اليوم. ترهل المؤسسات، الصمت الاجتماعي، التواطؤ غير المعلن مع الظلم، وتهميش النساء—كلها مشاهد لا تخص أميركا الستينيات فقط، بل يمكن أن نجد صداها في أي مجتمع اليوم.
دعوة للتأمل
في النهاية، يقدم الفيلم أكثر من حكاية قاتل متسلسل؛ إنه دعوة للتأمل في خطورة أن يترك المجتمع مشاكله الحقيقية تتعفن في الظلام. فالصمت ليس بريئًا، والعجز المؤسسي ليس مجرد ضعف، بل هو بيئة خصبة تسمح للجريمة أن تنمو وتزدهر. ووسط كل هذا الظلام، يذكّرنا الفيلم بأن الأفراد الشجعان، مثل لوريتا ماكلولين، قادرون على كسر الحصار وكشف الحقيقة مهما كان الثمن. وهكذا لا يعود "بوسطن ستراغلر" مجرد فيلم عن قاتل متسلسل، بل شهادة على أن الظلام الأخطر ليس في شوارع المدينة، بل في صمت المجتمع.