المعركة التي لا يراك فيها أحد

 المعركة التي لا يراك فيها أحد

=============



الانتصار على الذات: الفلسفة الخفية للنصر الحقيقي

يُخيَّل إلى كثيرين أن الانتصار معركةٌ تُخاض في الخارج: ضد عدو ظاهر، أو خصم معلن، أو حتى ظرف حياتي قاسٍ. لكن الفلسفة العميقة للنصر تكشف لنا أن أعظم المعارك ليست هناك، بل في الداخل؛ في مواجهة النفس، وضبط نزعاتها، وتحريرها من أوهامها. فالانتصار على الذات ليس مرحلة عابرة، بل هو الشرط الأول لأي انتصار آخر.

المعرفة أساس النصر

أول طريق النصر على الذات هو المعرفة. لا يمكن لإنسان أن ينتصر على ما يجهل. ومعرفة النفس ليست مجرد إدراك سطحي للطباع أو الميول، بل هي عملية تفكيك عميقة لما يحرّكنا: دوافعنا، عُقدنا، مناطق ضعفنا، ومكامن قوتنا.
ولهذا قال سقراط عبارته الشهيرة: "اعرف نفسك بنفسك". فالمعرفة هنا ليست غاية بحد ذاتها، وإنما وسيلة للكشف، ثم للمحاسبة، ثم للإصلاح.

الاعتراف بالقصور

المعرفة الصادقة تقود بالضرورة إلى الاعتراف بالقصور. من ينكر ضعفه يستحيل أن يتجاوز ضعفه. الاعتراف ليس جلدًا للذات ولا استسلامًا، بل هو لحظة الوعي التي يُدرك فيها الإنسان أن الكمال وهم، وأن النمو يبدأ من مواجهة العيوب لا إنكارها.
ولذلك قال أبو حامد الغزالي: "من عرف نفسه فقد عرف ربه"، أي أن المعرفة الحقيقية للنفس تُفضي بالضرورة إلى انكشاف أبعاد أعمق من الوجود.

تصويب الاختلالات

بعد المعرفة والاعتراف، تأتي مرحلة التصويب. وهنا يبرز سؤال عملي: كيف نصحح أنفسنا؟
الجواب يتدرج بين مستويين:

  • مستوى الفكر: حيث يُعيد الإنسان بناء منظومته المعرفية، يراجع ما تبنّاه من أفكار، ويفصل بين ما آمن به بوعي وما تلقّاه بتقليد أعمى. ابن رشد مثلًا أشار إلى أن "العقل نور يُهتدى به"، أي أن التفكر وإعمال العقل هو الشرط الأول للتصحيح.

  • مستوى السلوك: حيث يُترجَم الوعي إلى ممارسة يومية؛ في ضبط الانفعال، في تحكيم الضمير قبل القرار، وفي القدرة على التراجع حين يكتشف خطأه.

ملامح الذات الواعية

الذات الواعية – وهي ثمرة هذه العملية – تملك خريطة إدراكية تجعلها تعرف أين تبرع وأين تُقصِّر.
هي ذات ناقدة، مفكرة، لا تُستدرج إلى قوالب جاهزة مهما بدا بريقها لامعًا.
مرونتها لا تعني تسيبًا، وصلابتها لا تعني جمودًا؛ إنها تتحرك بين الضدين بوعيٍ عميق.

الذات الواعية إنسانية في جوهرها؛ ترفض تصنيف الآخرين على أساس الدين أو الفكر أو الانتماء. فكل هذه التصنيفات لا تصمد أمام حقيقة أن الإنسان إنسان قبل أن يكون أي شيء آخر.
إنها محبة للحياة بمعناها العميق، لا ترضى بالدونية في أي شأن، ولا تقع فريسة للنرجسية أو الاستعلاء أو الإقصاء.

الحرية المحسوبة

من أبرز سمات الذات الواعية سعيها نحو حرية محسوبة. الحرية هنا ليست انفلاتًا ولا فوضى، بل هي قدرة على اتخاذ القرار بعيدًا عن القهر الخارجي أو الاستلاب الداخلي.
وقد لخّص جان جاك روسو هذا المعنى حين قال: "أعظم الفضائل أن يكون المرء سيد نفسه".
فالحرية الحقيقية لا تكتمل إلا عندما يكون الإنسان قادرًا على أن يقول "نعم" و"لا" من داخل ذاته، لا بإملاء من سلطة أو عادة أو جماعة.

النصر في صورته الأوسع

إذا تحقق النصر على الذات، صار الانتصار في الخارج مجرد نتيجة طبيعية. فالإنسان الذي يملك ذاته يملك قراره، والذي يملك قراره يملك إمكانيات التغيير.
ومن هنا نفهم أن المجتمعات لا تنهض إلا بقدر ما ينهض أفرادها على ذواتهم. فالتغيير الاجتماعي والسياسي والحضاري يبدأ من الداخل الفردي، من تلك اللحظة الصامتة التي يواجه فيها كل إنسان نفسه.

خاتمة

النصر الحقيقي إذن ليس راية تُرفع فوق أرض معركة، بل هو راية تُرفع في أعماق الإنسان. كل معركة تخوضها بعد ذلك ستكون امتدادًا لذلك النصر الأول.

انتصر على نفسك، فلنفسك… عندها فقط، تصبح قادرًا على أن تنتصر في أي ساحة أخرى.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.