التميز الوهمي: كيف تصنع التفاهة "الكائن المستهلك"؟
البحث عن التميز: وهم يقتل الوعي
لم يعد التميز اليوم مرتبطًا بإنجاز حقيقي أو فكر عميق، بل تحوَّل إلى مجرد وهم داخلي، ينكشف أصحابه عند أي نقاش جاد. فالبعض يسعى للتميز عبر الأفعال أو الكلمات الشاذة على منصات مثل "تيك توك"، واللوم هنا لا يقع عليهم وحدهم، بل على الملايين من المتابعين الذين يمنحونهم القيمة والشهرة. هذا السعي الأجوف للتميز هو مجرد قمة جبل الجليد لظاهرة أكبر وأخطر.
الاحترام: ضحية الرأسمالية والهمجية
قيمة الاحترام، التي هي أساس كل مجتمع سليم، فقدت بريقها. فقد أدت الرأسمالية المتوحشة، التي لا تعترف بغير الربح، إلى إفقاد الناس قيمهم الأخلاقية. في مجتمعنا، أصبحنا نعشق الهمجية في كل شيء، بدءًا من طريقة قيادتنا للسيارات، مرورًا بضجيج الأماكن العامة، وصولًا إلى عدم احترامنا لمساحة الآخرين. هذا المناخ السام هو الذي يمهد الطريق لانتشار التفاهة.
التفاهة: سلاح لصناعة "الكائن المستهلك"
إن التفاهة ليست صدفة أو مجرد موضة، بل هي علم ممنهج تتبناه المؤسسات الكبرى. يتم بثها في عقولنا عبر محتوى سطحي ومبتذل على منصات التواصل الاجتماعي، بهدف واحد: صناعة "الكائن المستهلك بلا عقل". هذا الكائن هو الكنز الاستراتيجي لهذه المؤسسات، التي تحاصره بمنتجات و"براندات" فاخرة، وتوهمه بأنها تمنحه "تميزًا فارغًا". وهكذا، ينشغل الفرد بالركض وراء المظاهر، ويدخل في حلقة مفرغة من الاستهلاك لا يستطيع الخروج منها.
هذه الاستراتيجية تفسر الكثير، فمثلاً، كيف يمكن لمنظمات عالمية لحقوق الإنسان أن تتجاهل الإبادة الجماعية في غزة؟ وكيف يمكن للدول العربية أن تمنع شعوبها من التعبير عن غضبها وتتصدى للمظاهرات المؤيدة لغزة بقوة وهمجية؟ الجواب بسيط: هذا المنع ليس فقط لمناصرة الكيان الصهيوني، بل لأنها تخشى أن تفقد "الكائن المستهلك" وهو كنزها الحقيقي حتى تحكم. إنهم لا يريدون أن يصحو الناس من غفلتهم، فهم بحاجة إلى شعب يستهلك ويلهث وراء التفاهات ليظل حكمهم قائمًا.
كيف تُصنع التفاهة؟
التفاهة ليست مجرد محتوى سطحي، بل هي صناعة قائمة على أسس نفسية واقتصادية. منصات مثل "تيك توك" مصممة خصيصًا لتشجيع الإدمان الرقمي عبر خوارزميات تعرض المحتوى الأكثر إثارة، حتى لو كان تافهًا. هذه المنصات تخلق بيئة يُكافأ فيها المحتوى الذي يعتمد على صدمة المشاعر أو اللحظات المضحكة السريعة، مما يؤدي إلى تهميش المحتوى الهادف الذي يتطلب وقتًا وجهدًا للتفكير فيه. عندما ينشغل الفرد بالمرور السريع على فيديوهات تحديات الرقص أو المقالب، فإنه يصبح أقل قدرة على التركيز أو فهم القضايا المعقدة، مثل الفساد أو الكوارث الإنسانية. هذا التحول من التفكير إلى الاستهلاك هو جوهر التفاهة.
التميز الحقيقي: وعي وقيمة
إذا كان التميز الزائف هو السعي وراء المظاهر، فإن التميز الحقيقي يكمن في بناء القيمة والأثر الإيجابي. التميز الحقيقي ليس في الحصول على منتج من علامة تجارية باهظة الثمن، بل في المعرفة المتخصصة التي تساهم في حل المشاكل. هو في الأخلاق القويمة التي تجعل الفرد قدوة للآخرين، وفي الوعي بالقضايا المحيطة والعمل من أجلها. التميز الحقيقي يمكن أن يكون في إتقان مهنة يدوية، أو في التفوق الأكاديمي، أو حتى في بناء أسرة صالحة. إنه يتطلب جهدًا وصبرًا، ولا يمكن شراؤه بالمال أو الحصول عليه عبر ركوب "الترند". هذا التميز هو الذي يكسر دائرة الاستهلاك ويجعل الفرد قوة فاعلة في مجتمعه.
دعوة للوعي والعمل
لكي نخرج من هذه الدائرة، يجب أن نغير تعريفنا للتميز. علينا أن نربي أجيالًا تفكر، تبدع، وتشارك بفعالية في مجتمعاتها. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكننا بها كسر دائرة التفاهة والاستهلاك، واستعادة قيم الاحترام والوعي.