"أخطر انقسام في مصر ليس سياسيًا ولا اقتصاديًا… بل لغوي"

 "أخطر انقسام في مصر ليس سياسيًا ولا اقتصاديًا… بل لغوي"

===============================



جيتوهات الكلام: مصر التي لا تتفاهم

إذا أردت أن ترى الانقسام المصري بأوضح صوره، فلا تبحث في السياسة أو الاقتصاد، بل استمع فقط إلى كلام الناس. نحن لا نتحدث لغة واحدة، بل لغات متجاورة مثل جزر منعزلة، أو بالأدق "جيتوهات" عقلية ووجدانية لا نخرج منها.

الإخوان مثلًا لا يتكلمون معنا، بل مع أنفسهم. كلماتهم "الأخ"، "الأستاذ"، "المنهج" ليست مصطلحات عابرة، بل شفرات للتمييز: نحن وهم. الحوار معهم ليس جدالًا، بل عبور إلى عالم آخر، حيث الكلمة تُستعمل كسلاح لا كوسيلة تفاهم.

الإسلاميون عمومًا يستحضرون لغة القرون الأولى، محمّلة بالآيات والأحاديث، ولو بتعسف في المعنى. الهدف واضح: إضفاء قداسة على الخطاب تجعله فوق النقد. هكذا تتحول الكلمة إلى قيد، والدين إلى ترسانة لغوية.

ثم تأتي لغة الشباب، السريعة، المقتضبة، المليئة بالمصطلحات المستوردة: "مود"، "فيبز"، "ريتش"، "سيشن". لغة لا يفهمها آباؤهم، وربما لا يفهمونها هم بعد أسبوع. هي رغبة في صنع عالم خاص، لكنها في الحقيقة إعلان انفصال عن بقية المجتمع.

المثقفون أيضًا لا يختلفون كثيرًا، فهم يعيشون في جيتو خاص اسمه "النخبوية". يحاولون التبسيط، لكنهم يسقطون في فخ المصطلحات الثقيلة: "إبستمولوجيا"، "باراديم"، "ديالكتيك". في النهاية يكتبون لبعضهم، ويتركون الناس خلفهم.

أما الناس البسطاء فلغتهم هي الأصدق والأكثر حياة، لكنها في النهاية مجرد فضفضة يومية، غير قادرة على الدخول في حوار فكري أو مواجهة قضايا عامة.

ويبقى المتحازلقون أسوأ الجميع: خليط هجين من مصطلحات دينية وأجنبية وشبابية، بلا معنى ولا مضمون، مجرد استعراض فارغ يفضح خواء أصحابه.

هذه الجيتوهات اللغوية ليست قدرًا سماويًا، بل صناعة بشرية، غذّتها السياسة والطبقية والإعلام. الطبقة الثرية تتحدث عن "البراند" و"السوشيال" و"التريند"، بينما الشعبيون يتكلمون عامية خشنة بلا تزيين. الدراما والأغاني بدورها عمّقت الفوارق بدل أن تجسرها.

والسؤال الحاد هنا: كيف يمكن أن يكون وطن واحد بلا لغة واحدة؟ كيف ننتظر حوارًا وطنيًا بينما لا نتفق حتى على معجم مشترك؟ الحقيقة أن مصر لا تعيش أزمة لغة، بل أزمة فهم: كل جيتو لغوي مقتنع أنه يملك الحقيقة، والبقية لا يستحقون سوى التهميش.

ربما أخطر ما في الأمر أننا لم نعد نسمع بعضنا أصلًا. نحن لا نتجادل، بل نتبادل كلمات من جزر منفصلة. وهذا يعني أن أكبر أزمة في مصر ليست في السياسة أو الاقتصاد، بل في أبسط شيء: الكلام نفسه.

  • التعليقات
    0 التعليقات

    ليست هناك تعليقات :

    إرسال تعليق

    مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

    يتم التشغيل بواسطة Blogger.