وهم الحرية للنخبة
======
إن فكرة الحرية المطلقة، التي يتم الترويج لها أحيانًا على أنها قمة التنوير، ليست في حقيقتها سوى وهم زائف يتجاهل طبيعة المجتمعات الإنسانية المعقدة. فالحياة الاجتماعية بطبيعتها تفرض قيودًا ضرورية لتنظيم العلاقات والحفاظ على حقوق الجميع. حرية الفرد تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين، وهذا مبدأ أساسي يضمن التعايش السلمي. وعندما تتحول الحرية إلى فوضى ورغبة في تجاوز كل الحدود، فإنها سرعان ما تنقلب إلى اعتداء سافر على حقوق وكرامة الآخرين.
والأخطر من ذلك هو الترويج لفكرة أن إهانة المقدسات هي فعل "شجاع" يهدف إلى كسر "التابوهات". هذه الفكرة عقيمة وسطحية، ولا تنبع إلا من باحثين عن الشهرة الزائفة أو من يسعون إلى إثارة الجدل بأي ثمن. فالحرية الحقيقية لا تقاس بمدى قدرتك على إيذاء مشاعر الآخرين أو تحقير معتقداتهم، بل بقدرتك على التعبير عن رأيك بمسؤولية واحترام.
أين ذهب مفهوم قبول الآخر الذي طالما تغنى به دعاة "الحرية المطلقة"؟ لماذا يتم اختزال "الآخر" في فئات محددة فقط، مثل الشاذين جنسيًا أو النسويات المتطرفات أو الليبراليين أو الملحدين؟ أين مكان أصحاب الإيمان، الذين يشكلون غالبية مجتمعاتنا؟ هل يجب دفنهم أحياءً حتى لا "يلوثوا" أفكار "المفكر الألمعي"؟ هذا الانتقاء المتحيز يكشف عن نفاق فكري واضح.
والسؤال الأكثر إلحاحًا: لماذا يتم التركيز بشكل خاص على إهانة المقدسات الإسلامية تحديدًا، وكأنها جواز المرور نحو العالمية الفكرية؟ هل يجرؤ هؤلاء "المفكرون" على كتابة حرف واحد ينتقد البوذية أو اليهودية بنفس الحدة والجرأة؟ غالبًا ما يكشف هذا الانتقاء عن دوافع خفية أو عن خوف من ردود فعل مختلفة.
إن أي شخص يدعي أنه مفكر ويسعد بإهانة العقيدة الإسلامية، يجب أن ننظر إليه بعين الريبة. غالبًا ما يكون هؤلاء الأفراد مجرد أدوات في يد "الطابور الخامس"، حتى لو امتلكوا بلاغة في الكتابة وقدرة على التلاعب بالأفكار. فالحرية الحقيقية لا يمكن أن تكون حكرًا على فئة معينة تستبيح مقدسات الأغلبية. إذا كنت تؤمن بحريتك في التعبير، فيجب عليك بالمقابل احترام حرية الآخرين في معتقداتهم ومقدساتهم.
يا للأسف على تلك الحروف التي ترص هباءً، لا تحمل أي قيمة حقيقية ولا تسعى إلا لتحقيق مكاسب شخصية ضيقة لأصحابها. وكما يكشف كتاب "من الذي دفع للزمار؟ الحرب الباردة الثقافية"، فإن ليس كل ما يكتب يهدف إلى مصلحة الإنسان. في كثير من الأحيان، تقف وراء الكلمات أهداف خبيثة تخدم أجندات خفية لقوى أخرى تسعى للتأثير في المشهد الثقافي والفكري.
إن كتاب الدكتورة فرانسيس ستونر سوندرز يلقي ضوءًا كاشفًا على العالم الخفي لتسييس الثقافة والفن والأدب خلال الحرب الباردة. ويكشف كيف قامت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) باختراق وتوجيه العديد من الكتاب والمفكرين في أوروبا والعالم، بهدف مواجهة الشيوعية. هذا الكتاب يذكرنا بضرورة التفكير النقدي وعدم التسليم المطلق بكل ما يقدم لنا تحت ستار الفكر والفن، فقد تكون هناك قوى خفية تسعى لتشكيل وعينا وتوجيه أفكارنا.
في الختام، نؤكد أن إهانة المقدسات ليست حرية تعبير، بل هي شكل من أشكال التعصب والتطرف الفكري المقنع. الحرية الحقيقية تزدهر في بيئة يسودها الاحترام المتبادل والتنوع الفكري الحقيقي، حيث يتم التعبير عن الآراء بمسؤولية وحكمة، وليس بإيذاء مشاعر الآخرين واستفزازهم. أما أولئك الذين يسعون للشهرة الرخيصة أو تحقيق أجندات خفية من خلال إهانة معتقدات الآخرين، فهم يكشفون عن ضعف حججهم وضآلة تأثيرهم الحقيقي.