"نقطة أفضلية": حين تتعدد الرؤى وتتلاشى الحقيقة المطلقة



  • "نقطة أفضلية": حين تتعدد الرؤى وتتلاشى الحقيقة المطلقة

  • ========


    "نقطة أفضلية": تعدد الرؤى وسبر أغوار الحقيقة

    فيلم "نقطة أفضلية" (Vantage Point) يقدم تجربة سينمائية مغايرة للتقليد؛ إنه ليس مجرد قصة لمحاولة اغتيال، بل هو تحليل معمق للحدث الواحد من خلال تعدد وجهات النظر. يرتكز الفيلم على مشهد محوري – محاولة اغتيال الرئيس الأمريكي خلال مؤتمر لمكافحة الإرهاب – ليُفكك هذا المشهد ويعرضه من زوايا مختلفة: الإعلام، المخابرات الأمريكية، الإرهابيين، وحتى الناس العاديين. هذا الأسلوب السردي يُحوّل الفيلم إلى فسيفساء درامية، تكتمل صورتها تدريجيًا مع كل منظور جديد.

    تبدأ مشاهد الفيلم في حالة من الفوضى والارتباك. المعلومات تتضارب، والروايات تتشابك، تاركةً المشاهد في حيرة. لا يُقدم الفيلم الحقيقة جاهزة، بل يفرض على المتلقي دور الشريك في عملية فك اللغز. كل زاوية تصوير تُلقي ضوءًا مختلفًا، لكنها تُخفي أجزاءً لا تُكشف إلا بتجميع قطع الصورة من المنظور التالي، مما يعمق التشويق ويُجبر المتلقي على إعادة تقييم ما شاهده مرارًا.


    براعة بصرية وسردية آسرة: التصوير والمونتاج

    يُعد التصوير السينمائي لأمير مكرى البطل الحقيقي للفيلم. تقنية الفلاش باك المتكرر لنفس اللحظات، مع التغيير المستمر في زوايا التصوير وأداء الممثلين والحوار، تُخلق تجربة مشاهدة محفزة ومثيرة. هذه التقنية لا تزيد التشويق فحسب، بل تُعمق فهم المشاهد للتعقيدات الدائرة حول الحدث الرئيسي.

    ولا يقل المونتاج إبهارًا؛ فقد كانت براعته "فوق الممتازة". القدرة على ربط المشاهد المتتالية بسلاسة مدهشة، تجعل المشاهد يشعر وكأن كل شيء يتكشف أمامه دون انقطاع، ما يعكس حرفية عالية. هذا الأسلوب يمنح الفيلم ديناميكية تشبه "مسرحية من عدة مشاهد على ذات خشبة المسرح ولكن دون لحظة ملل واحدة"، مما يُبقي المتفرج على أهبة الاستعداد لكشف الألغاز. الجاذبية هنا لا تكمن فقط في "ماذا سيحدث تاليًا؟" بل في "كيف حدث ذلك؟ ولماذا من كل منظور؟"، دافعةً المشاهد إلى إعادة تركيب الصورة ذهنيًا وتفحص أدق التفاصيل.


    رسائل ضمنية: البطولة الأمريكية وصورة الإرهاب

    "نقطة أفضلية" يُعزز الصورة النمطية لهوليوود حول "أمريكا التي لا تُهزم من أي قوى". كما يُحاول الفيلم تسليط الضوء على "الأخلاق الأمريكية الحنونة إعلاميًا"، بتصوير الرئيس وهو يرفض ضرب مخيم إرهابي، في محاولة لرسم صورة مثالية للقائد الأمريكي.

    جانب الإعلام في الفيلم يُقدم نقدًا ضمنيًا لطريقة صناعة الخبر وتأثيرها على الرأي العام. فالكاميرات تُظهر جزءًا من الحقيقة، ما يُسهم في بناء سرد أولي قد يكون مشوهًا. هذا يطرح تساؤلاً حول قدرة الإعلام على نقل الحقيقة بموضوعية تامة، وكيف يمكن للسبق الصحفي أو الحاجة للإثارة أن تُغير من أولويات التغطية، وتُشكل رؤية الجمهور.

    ومع ذلك، يُثير الفيلم نقطة جدلية بالغة الأهمية: ربط الإرهاب بالإسلام. تقديم شخصية منفذ تفجير الفندق كمسلم، بينما باقي الإرهابيين يحملون أسماء إسبانية، هو نمط متكرر ومثير للجدل في الأفلام الغربية بعد 11 سبتمبر. هذا التوجه يُساهم، للأسف، في ترسيخ فكرة "الإسلام فوبيا" وتعزيز الصور النمطية السلبية عن المسلمين.


    الأداء الفني والفلسفة الكامنة

    على الرغم من بعض "الهنات" في السيناريو – كما هو شائع في أفلام الحركة التي تُركز على السرعة – إلا أن وجود حارس شخصي خائن للرئيس يُمثل هفوة كبيرة تُضعف مصداقية الحبكة الأساسية، وتُلقي بظلال من الشك على أعمق مستويات الثقة. لكن هذا العنصر يُضيف بعدًا دراميًا ونفسيًا حول هشاشة الأمن والخيانة من الداخل.

    أما على مستوى التمثيل، فمع أنه "جيد إلى حد ما"، فإن الأداء الاستثنائي لـ فورست ويتكر (بدور هوارد لويس) كان نقطة مضيئة. "التماهي مع الشخصية لدرجة الذوبان مع إضافة الإحساس الإنساني الطبيعي" منح الفيلم عمقًا عاطفيًا وسط زخم الأحداث.

    على مستوى الفكرة، يُرسّخ الفيلم مفهوم "الأمريكي السوبر مان" الذي قد يتعثر للحظات لكنه يعود وينتقم ولا ينهزم أبدًا. هذه الفكرة تتقاطع مع فلسفة نيتشه عن "الإنسان السوبرمان" أو "الإنسان الأعلى"، والتي ترى الإنسان "جسرًا تخطو عليه الطبيعة من الحيوان للسوبرمان". يُسقط الفيلم هذا المفهوم على البطولة الأمريكية، ليُقدم صورة لكيان لا يُقهر، في سياق يهدف لترسيخ مفهوم القوة والقدرة المطلقة على استعادة السيطرة بعد صدمة كبرى. هذا الربط الفلسفي يُشير إلى محاولة لاشعورية أو مقصودة لترسيخ المركزية الأمريكية والقدرة على الهيمنة في مواجهة التحديات العالمية.


    في الختام، "نقطة أفضلية" فيلم حركة ببراعة بصرية وسرد مبتكر، يُبقي المشاهد في ترقب مستمر. ورغم بعض الملاحظات على السيناريو والرسائل الضمنية، إلا أنه يُقدم تجربة مشاهدة غنية تُثير التفكير في الأبعاد الفنية والفلسفية والسياسية التي قد تتخلل الأعمال السينمائية.


    التعليقات
    0 التعليقات

    ليست هناك تعليقات :

    إرسال تعليق

    مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

    يتم التشغيل بواسطة Blogger.