خيانة القيم: الطريق إلى منحدرات التدهور

خيانة القيم: الطريق إلى منحدرات التدهور
=======

يبدو للوهلة الأولى أن القيم التي تنظم سلوك الإنسان في تعامله مع الآخرين والمجتمع برمته ما هي إلا تصورات ذهنية لدى بعض المثقفين. لكن الحقيقة المؤلمة هي أن بداية انحدار أي مجتمع تبدأ مع التخلي عن قيمة جوهرية من هذه القيم، حتى يجد المجتمع نفسه في نهاية المطاف على حافة الهاوية، خاصة إذا كان هذا التخلي صادرًا من النخبة والقدوة الذين يمثلون مرجعية للمجتمع.

تُعد قيمة الصدق ونقيضها الكذب حجر الزاوية في بناء الثقة والتماسك الاجتماعي، ومع ذلك، يتهاون الكثيرون في إهدارها. فالكذب الذي يمارسه قادة الرأي العام، على سبيل المثال، لا يمثل مجرد تضليل للأفراد، بل يرسخ قناعة ضمنية خطيرة بأن الكذب ليس مجرد خطيئة عابرة، بل ربما وسيلة مقبولة لتحقيق غايات معينة. وتتفاقم الكارثة عندما يسعى هؤلاء القادة لتبرير هذا الفعل المشين بارتكاب جرائم أبشع، ولكن تحت ستار براق مثل "حماية الوطن" أو "الوطنية" التي يُزعم أنها تهدف إلى إصلاح المجتمع. والحقيقة أن هذه الأفعال تقوض أسس المجتمع الأخلاقية وتزعزع ثقة الأفراد في بعضهم البعض وفي مؤسساتهم.

شهدت مجتمعاتنا أمثلة لا حصر لها للكذب الصريح الذي كان سببًا في كوارث حقيقية. ولعل أشهرها كذبة المذيع أحمد سعيد حول إسقاط أعداد وهمية من طائرات العدو والتبشير بنصر وشيك. لكن الحقيقة المرة التي صدمت الجميع كانت إبادة معظم طائراتنا وهي جاثمة في قواعدها. لم تكن الخسارة مجرد هزيمة عسكرية، بل كانت انهيارًا للثقة الغالية بين الحاكم والنخبة وعامة المجتمع، وهو شرخ عميق يصعب ترميمه. ونتيجة لذلك، تفشى الكذب ليصبح سمة غالبة في التعاملات، حتى بات يُنظر إلى المتمسكين بفضيلة الصدق باستغراب، وكأنهم قادمون من زمن أو عالم آخر. ألم نتساءل يومًا كيف وصلنا إلى مجتمع يشعر فيه الصادق بالغربة؟

في المقابل، نرى مجتمعات تعتبر الكذب جريمة نكراء، كما تجسد في حادثة الرئيس الأمريكي كلينتون. ففي ظل الضغوط الهائلة، اعترف بيل كلينتون في 17 أغسطس 1998 بأنه كذب على الشعب الأمريكي واعترف بعلاقته غير اللائقة مع مونيكا لوينسكي، وإن أنكر شهادته الزور. هذا المثال يوضح كيف تتعامل بعض المجتمعات بجدية مع قيمة الصدق على أعلى المستويات، وكيف يمكن للمساءلة أن تحافظ على قدر من المصداقية في الحياة العامة.

الكذب وجريمته في الدين:

تؤكد النصوص الدينية بوضوح على حرمة الكذب وعواقبه الوخيمة، وتعتبره من أقبح الصفات التي تنافي الإيمان الحق:

﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ (البقرة - 10) ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ (التوبة - 77) ﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ﴾ (النحل - 39) ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ (المؤمنون - 90) ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾ (غافر - 28) ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران - 61)  

الأصل في الكذب أنه محرم، وهو علامة من علامات النفاق كما ورد في الحديث الشريف: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ». ولكن الشريعة الإسلامية أجازت الكذب في حالات استثنائية لتحقيق مصلحة عظيمة أو دفع ضرر بالغ، مثل الإصلاح بين المتخاصمين، وحديث الزوجين لتحقيق المودة، وفي الحرب. ولكن، هل يمكن تبرير الكذب في سياقات أخرى لتحقيق مكاسب سياسية أو شخصية؟

إن الكذب ليس مجرد فعل فردي، بل هو البوابة الرئيسية لانهيار منظومة القيم بأكملها. وعندما يتفشى الكذب في مجتمع ما، فإنه يقوض أسسه الحقيقية ويجرّه نحو منحدر سحيق، يصبح النهوض منه مرة أخرى أشبه بالمعجزة. فعندما تتخلى القدوة عن الصدق، فإنها بذلك تقوض الأسس الأخلاقية التي يُفترض أن تحتذي بها الأجيال الصاعدة، وتزعزع الثقة في المؤسسات التي يجب أن تكون حصنًا للحق والعدل. ألا يستدعي هذا منا وقفة جادة لمراجعة ذواتنا ومجتمعاتنا؟

غالبًا ما ينبع الكذب من جذور عميقة في النفس البشرية، سواء كان ذلك خوفًا من العقاب، أو رغبة في تحقيق مكاسب شخصية، أو حتى محاولة لتجميل صورة الذات أمام الآخرين. وفي سياق السلطة، قد يُستخدم الكذب كأداة للحفاظ على النفوذ أو تبرير الأفعال المشينة. ولكن، هل يمكن لقوة مبنية على الباطل أن تدوم؟

يقع على عاتق وسائل الإعلام مسؤولية تاريخية في التمسك بالصدق ونقل الحقائق بأمانة، فهي المنبر الذي يشكل وعي الجماهير ويمكن أن يكون أداة قوية في تعزيز قيم النزاهة والمصداقية. وبالمثل، يلعب التعليم دورًا حاسمًا في غرس قيمة الصدق في نفوس النشء منذ الصغر.

التعريفات:

  • نقائِصُ: جمع نَقيصة، وهي النَّقْصُ، الخصلة الدنيئة، العيب، الشائبة، أو الوقيعَةُ أو الطَّعنُ في الناس.

ختامًا: إن الحفاظ على قيمة الصدق ليس مجرد فضيلة شخصية، بل هو ضرورة حتمية لبناء مجتمعات قوية ومستقرة وقادرة على التقدم. ومواجهة الكذب بكل أشكاله هي مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الأفراد والمؤسسات على حد سواء. فهل نملك الشجاعة لقول الحقيقة، حتى عندما تكون مؤلمة؟ وهل نحن مستعدون لبناء مجتمعات تقوم على أسس من الشفافية والمصداقية؟



التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.