"اشتباك": حين يصبح المكان بطلًا... قراءة في رمزية عربة الترحيلات.

  • "اشتباك":
  •  حين يصبح المكان بطلًا... قراءة في رمزية عربة الترحيلات.

===

"اشتباك": حين يصبح الحيز المكاني بطلًا لرواية الانقسام الإنساني العميق

شاهدت فيلم "اشتباك"، وهو بحق ليس مجرد عمل سينمائي، بل تجربة بصرية غامرة تستنطق صمت الصورة وتجعلها البطل الأوحد في سرد حكاية الانقسام المجتمعي المصري عقب أحداث 3 يوليو 2013. الفيلم يتجاوز السرد القصصي التقليدي ببداية وعقدة ونهاية، ليقدم للمشاهد رحلة حسية داخل فضاء مكاني محدود ولكنه مُحمّل بدلالات رمزية عميقة. هنا، لا تُروى الحكايات بالكلمات فحسب، بل تُشاهد وتُعاش عبر عدسة سينمائية ماهرة ترصد أدق تفاصيل التوتر الإنساني.

يُزج بالمشاهد قسرًا داخل عربة ترحيلات مكتظة بمجموعة من المصريين المنتمين إلى أطياف سياسية واجتماعية متناحرة. مؤيدون ومعارضون لما بعد 3 يوليو، صحفيون يسعون لتوثيق اللحظة، وأفراد عاديون وجدوا أنفسهم في خضم هذا الصراع. هذا الحيز المكاني الضيق والمغلق، الذي يلازم الكاميرا شخصياته من البداية إلى النهاية، ليس مجرد مسرح للأحداث، بل يتحول إلى بؤرة مكثفة للتوتر ورمزية الفيلم الأكثر وضوحًا. لقد كان اختيارًا إخراجيًا جريئًا ومُوفقًا، حيث خلق شعورًا خانقًا بالضغط والعزلة الفيزيائية والنفسية، مما عكس بدقة حالة الاحتقان والانقسام الحاد الذي خيّم على المجتمع المصري في تلك الفترة. داخل هذه "العلبة المتحركة"، تم تجريد الشخصيات من مظاهر هوياتها الخارجية، لتتجلى إنسانيتهم المجردة تحت وطأة الظروف القاسية، مما أجبرهم على تفاعلات قسرية كشفت عن هشاشة الروابط الإنسانية وصلابتها المتناقضة في وجه الصراع الأيديولوجي.

تتطور ديناميكية العلاقة بين الأطراف المتصارعة داخل هذه العربة عبر مسار درامي دقيق. تبدأ بمرحلة العداء الأيديولوجي المتأصل، حيث يسيطر منطق الكراهية والتخوين المُستمد من الخطاب السياسي والإعلامي المتشنج. يتجلى هذا العداء في احتكاكات لفظية حادة ونظرات مشحونة بالعنف الكامن. لكن، وتحت وطأة الظروف القاسية التي فرضها ضيق المكان وقلة الموارد الأساسية (مثل الهواء)، تبدأ الحاجات الإنسانية المشتركة في الظهور تدريجيًا. هذه الاحتياجات الأولية تدفعهم مؤقتًا إلى تجاوز خلافاتهم الحزبية الضيقة والتعاون من أجل البقاء بشكل أفضل داخل هذا السجن المتنقل. ومع مرور الوقت، تبدأ ملامح إنسانية فردية في الظهور خلف القناع الأيديولوجي. لحظات التعارف الإنساني العابرة، وتبادل الأحاديث القصيرة حول الحياة والأحلام، وحتى التعاطف اللحظي مع آلام الآخر، تساهم في تكسير الصورة النمطية "للعدو" التي رسخها الخطاب الإعلامي والسياسي. إلا أن هذا التعايش الهش سرعان ما يتصدع مع تصاعد الصراع على السلطة داخل هذا العالم المصغر، كما يتجلى في عملية اختطاف السيارة التي تعيد الصراع الأيديولوجي إلى الواجهة بشكل أكثر شراسة. ليبلغ هذا الصراع ذروته المأساوية في مشهد انقلاب السيارة، الذي يمثل انهيارًا تامًا لأي محاولة للتعاون أو التفاهم، وانتصارًا لمنطق القوة والعنف واليأس.

على الرغم من أن الفيلم يركز بشكل أساسي على ديناميكية المجموعة ككل، إلا أن بعض الشخصيات الفردية تبرز كرموز دالة وتلعب أدوارًا محورية في نقل رسائل الفيلم وتجسيد التحولات التي تطرأ على العلاقات الإنسانية. الصحفي والمصور، بصفتهما مراقبين خارجيين في البداية، يمثلان عين المشاهد ويقدمان منظورًا شبه محايد على هذا الصراع المحتدم، مع إظهار تأثرهما التدريجي بالواقع الإنساني المعقد داخل العربة. تجسد شخصية الأم (التي قدمتها نيللي كريم بأداء مؤثر وعميق) صوت العقل والفطرة الإنسانية البسيطة التي تتجاوز الانتماءات السياسية الضيقة وتركز على القيم الإنسانية الأساسية كالأمومة والخوف على الأبناء. ونشهد أيضًا تحولات دقيقة لدى بعض الشباب المتحمسين من كلا الطرفين، حيث يبدأون في التساؤل عن يقينية أفكارهم المطلقة من خلال الاحتكاك المباشر بالآخر المختلف. بالإضافة إلى ذلك، تتباين مواقف المنتمين لجماعة الإخوان داخل العربة، حيث يظهر بعضهم صلابة أيديولوجية راسخة، بينما يبدي آخرون علامات شك أو رغبة خفية في التهدئة وإيجاد أرضية مشتركة. كل هذه التفاعلات الفردية والجماعية المتشابكة تساهم في رسم صورة سينمائية معقدة وواقعية للوضع الإنساني في خضم الصراعات السياسية العميقة.

إن اختلاف استقبال النقاد المصريين والأجانب لفيلم "اشتباك" يثير تساؤلات مهمة حول تأثير السياق الثقافي والسياسي على عملية التقييم الفني. ربما نظر النقاد المصريون إلى الفيلم من منظور تجربتهم المعيشة والمباشرة للأحداث التي يتناولها، مما قد يؤدي إلى تحيزات أو حساسيات معينة تؤثر على تقييمهم للعمل. في المقابل، قد يكون النقاد الأجانب أكثر قدرة على رؤية الفيلم كعمل فني مستقل، بمعزل نسبي عن هذه الخلفيات السياسية والاجتماعية المشحونة، مما يتيح لهم التركيز بشكل أكبر على الجودة الفنية والقدرة على إثارة التفكير العالمي حول قضايا إنسانية أوسع.

في جوهره العميق، يقدم فيلم "اشتباك" ما هو أبعد من مجرد توثيق لفترة زمنية عصيبة في تاريخ مصر الحديث. إنه يقدم دعوة مُلحّة للتفكير النقدي في تأثير الانقسام الأيديولوجي الحاد على النسيج الاجتماعي، وكيف يمكن للخطاب السياسي المتطرف أن يحول أبناء الوطن الواحد إلى أعداء لدودين. كما يسلط الضوء على قوة التجربة الإنسانية المشتركة الكامنة حتى في أصعب الظروف، وكيف يمكن للظروف القاسية أن تكشف عن الجانب الإنساني المشترك وتكسر الحواجز المصطنعة التي تغذي الصراع. وفي الوقت نفسه، لا يغفل الفيلم عن إظهار هشاشة التعايش وإمكانية انهيار لحظات التعاون والتفاهم أمام تصاعد الصراعات الأيديولوجية والرغبة في فرض السيطرة. نهاية الفيلم المفتوحة والمأساوية ليست مجرد انعكاس للواقع المرير، بل تحمل في طياتها تحذيرًا ضمنيًا من مغبة الاستمرار في مسارات الانقسام والعنف، وتدعونا إلى البحث عن سبل لتجاوز هذه الحالة. إنه عمل سينمائي حقيقي بكل المقاييس، لأنه ينجح ببراعة في أن يكون رؤية بصرية قوية ومؤثرة تحمل فكرًا إنسانيًا عميقًا يتجاوز حدود التوثيق السطحي للأحداث ليلامس جوهر التجربة الإنسانية في مواجهة الصراع.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.