زمن الأمراض النفسية المتفجرة وتأثير الذات المتخيلة في الفضاء الرقمي
نشهد في عصرنا الحالي تصاعدًا ملحوظًا في بعض الأمراض النفسية، والتي تجد لها متنفسًا واسعًا في فضاء وسائل التواصل الاجتماعي.
فغالبًا ما يرفض الفرد الاعتراف بصراعاته النفسية، وبدلًا من ذلك، يميل إلى إسقاط مشاكله على الآخرين ورؤيتهم كبؤرة للمرض. وفي خلوته خلف شاشة صماء، ينشئ لنفسه صورة مثالية في عالمه الخيالي، ويسعى جاهدًا لفرض هذه الصورة على محيطه الرقمي دون أي سند واقعي، لتصبح مجرد تجسيد لرغباته وأوهامه الذاتية.
لا شك أن هذه "الذات المتخيلة" غالبًا ما تتسم بتضخيم القيم والمثل العليا في خطابها الظاهري، سعيًا لإقناع الآخرين بصورة زائفة من الكمال الأخلاقي. لكن عند التدقيق، نجد غالبًا كيانًا أجوف يفتقر إلى الأسس الفعلية لهذه القيم، مملوءًا بالغرور والأوهام، والأخطر من ذلك، يعاني من كسل عقلي يعيق النمو والتطور الحقيقي، مفضلًا البقاء في منطقة الراحة الوهمية التي توفرها هذه الصورة الزائفة.
يعود السبب الجذري لنشوء هذه الذات المتخيلة المدفوعة بالوهم إلى حالة من عدم الرضا عن الواقع المعاش، والتي تفاقمت مع انفجار وسائل الإعلام الرقمي وظهور محتوى متنوع، بما في ذلك أعمال أقل جودة أو غير احترافية على نطاق واسع. هذا قد يوحي للبعض بأن التميز لا يتطلب جهدًا حقيقيًا، مما يغذي وهم القدرة الزائفة. يضاف إلى ذلك تأثير ثقافة الاستهلاك والمظاهر البراقة التي تشجع على خلق صور زائفة للذات تركز على الممتلكات والإنجازات السطحية، فضلًا عن الخوف من الفشل أو النقد الذي يدفع البعض إلى بناء ذوات متخيلة مثالية كنوع من الحماية. كما أن الانغماس المفرط في الفضاء الرقمي قد يؤدي إلى فقدان الاتصال بالهوية الحقيقية والاعتماد بشكل كبير على تأييد الآخرين لهذه الصورة الوهمية.
يتطلب التعامل مع هذه الظاهرة مقاربة متعددة المحاور:
- المحور الأول: المواجهة الهادئة للواقع وتنمية الوعي الذاتي: التعامل مع الأفراد بصورتهم الحقيقية، وتجنب الانجراف وراء الذات المتخيلة أو المتوهمة، مع التركيز على الحقائق الموضوعية. بالتوازي مع ذلك، العمل على مساعدة الأفراد على تطوير وعي ذاتي حقيقي من خلال التأمل، العلاج النفسي، أو حتى ممارسات بسيطة مثل كتابة اليوميات.
- المحور الثاني: التحفيز البناء لتنمية القدرات وتعزيز التفكير النقدي: تشجيع تطوير المهارات والمواهب الحقيقية من خلال التحفيز الإيجابي والمتنوع، مع إمكانية استخدام التجاهل المدروس لسلوكيات البحث عن الاهتمام الزائف. بالإضافة إلى ذلك، تعليم الأفراد كيفية تحليل وتقييم المعلومات والصور التي يرونها على وسائل التواصل الاجتماعي بشكل نقدي.
- المحور الثالث: تفكيك الأوهام بلطف وحزم وبناء علاقات حقيقية: مساعدة الأفراد على رؤية التناقضات بين صورتهم المتخيلة وواقعهم، من خلال حوار هادئ ومباشر يسعى إلى فهم جذور هذا الوهم وتقديم بدائل واقعية لبناء الثقة بالنفس. بالتوازي مع ذلك، التشجيع على بناء علاقات واقعية وقوية خارج العالم الرقمي.
إن اكتساب الاحترام والتميز الحقيقي لا يأتي من تأييد الآخرين لصورتنا الوهمية، بل ينبع من بذل جهد حقيقي ومضنٍ لتحقيق هذه القيم داخليًا أولًا، وعندها فقط يمكننا أن ننالها بصدق من محيطنا. كما أن للأسرة والمؤسسات التعليمية والمجتمع دورًا هامًا في تعزيز قيم الصدق والواقعية وتقدير الذات الحقيقي، وتوجيه الأفراد نحو استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل واعي ومتوازن.
يدرك "المتخيل" غالبًا هويته ككيان مناقض للواقع، حيث يتقاطع ويتعارض معه في مسرح التفاعل بين الذات والآخر. وتشمل "الذات" هنا أفكارنا الواعية وغير الواعية، وعواطفنا التي تشكل إحساسنا بهويتنا، بالإضافة إلى المشاعر التي نشأت عبر تفاعلاتنا الثقافية المختلفة.
التخيل والتصور: حدود الدلالة:
التصور: هو استدعاء صورة موجودة مسبقًا في الذهن والذاكرة، وغالبًا ما تتطابق مع الصورة الحقيقية في الواقع. إنه أقرب إلى استحضار الواقع منه إلى خلق عالم جديد.
التخيل: مشتق من خلق صورة ذهنية لشيء غير موجود أو غير ممكن الحدوث في بعض الأحيان، وهو أقرب إلى عالم الخيال البحت.
تتعدد دلالات كلمة "متخيل" في اللغة، حيث تشير إلى:
- صفة: ما ليس له وجود حقيقي إلا في الذهن.
- اسم مفعول: الشيء الذي تم إنشاؤه أو تصوره في الخيال.
- اسم: الناتج العقلي للخيال، أو المجال الذي تنشط فيه قوة الخيال.
من منظور فلسفي، يمثل الانغماس في بناء الذوات المتخيلة ابتعادًا عن جوهر الوجود الإنساني، ألا وهو الأصالة. فالأصالة تكمن في التوافق بين الذات الداخلية والخارجية، في الاعتراف بنقاط القوة والضعف والسعي نحو النمو الحقيقي بدلًا من الاختباء خلف قناع مثالي زائف. إن بناء هوية حقيقية يتطلب شجاعة مواجهة الذات كما هي، بكل تعقيداتها، والسعي نحو تحقيق الذات من خلال الجهد والعمل الواقعي، لا من خلال وهم الكمال المصطنع.