كانت قطة العائلة المدللة من الكل، فكانت النشأة المتميزة عن كل أقرانها، وربما خلقت لديها توقعات غير واقعية لعالم لا يقدم دائمًا هذا التدليل المستمر. فتعلمت التمرد على كل القيود الراسخة من خلال أعراف المجتمع، إلا شيئًا واحدًا لم تعرف أن تتمرد عليه ولم تجرؤ على البوح لأحد به: أن تذهب للمولد حتى ترى الساحر.
رسمت في خيالها صورة للساحر الذي سيسحرها ويجعلها سندريلا التي يطوف بها كل الأنحاء ويشبع كل احتياجاتها الإنسانية، هذا الحلم الطفولي الذي يمثل الرغبة في الخلاص السحري دون عناء. وقابلت من ظنت أنهم سحرة، ولكن صُدمت فيهم لأنها ظلت كما هي، فلم تبرح مكانها ولم تتحول إلى سندريلا كما كانت تحلم. فتمردت بغضب على ذاتها واتهمتها بالقصور ونقمت عليها حتى وصلت لكراهية ذاتها من شدة حبها المتأصل لها، ونقمت على كل من حولها، فدخلت في شرنقة ذاتها المظلمة حتى لا ترى أي أحد، حتى ذاتها المنهكة التي شعرت بالخيانة.
جعلت من نفسها مسخًا من المسوخ المتحركة أمامها دومًا، وفقدت هويتها تدريجيًا، ومزقت كل أحلامها حتى نسيت أنها امرأة، بل نسيت أنها إنسانة.
ظهر لها صندوق الدنيا الجديد، ربما عالم افتراضي أو نافذة على عوالم أخرى، والتي رأت بها العجب الذي أشبع بعضًا من أحلامها بشكل مؤقت، فأرادت أن تلقي به بضع حروف عرجاء متحشرجة ظنًا منها أنها ما زالت تملك ذاتها المتمردة كعهدها بنفسها، حتى تشعر أنها ما زالت على قيد الحياة، ولكن هذا العالم كان في النهاية مجرد هروب.
وبدون سابق إنذار، وجدت من يصنع من حروفه سلمًا يصعد بها آفاقًا كانت تحلم بها منذ الطفولة، فتعﻠّقت بذاك الحرف الذي بدا وكأنه بصيص أمل حقيقي. ويومًا بعد يوم كانت تغوص داخل بحار المعاني ومحيطات الأفكار التي كانت مبهرة لدرجة كانت تأخذها إلى كل الأنحاء بخيالها دون أن تبرح مكانها، واستعادت شيئًا فشيئًا شخصيتها المتمردة التي حاولت قتلها داخلها، وهربت من صندوق الدنيا الزائف إلى واقع المسوخ المزري حتى لا تُصدم مرة أخرى بوهم الساحر الذي سيجعلها سندريلا بلمسة عصا.
مكثت بين المسوخ أيامًا وأسابيع وشهورًا، وكانت تنظر بعيون شاخصة ولكن روحها أصبحت متعلقة بتلك الحروف التي كانت تتراقص أمام عيون خيالها، وكأن الحروف تنسج لها فستان سندريلا خيطًا بجوار خيط، فتتحسس نفسها حتى ترى ذاتها التي تحاول البزوغ من داخلها لترى الحياة، ولكنها كانت لا تسمعها بسبب الخوف المترسخ داخلها من التجربة والألم.
بعد فترة تحدثت إلى نفسها، وظهرت فكرة غريبة عليها: أنها في عداد الموتى، فماذا سيحدث للميت أكثر من ذلك؟ فذهبت بخطوات مترددة إلى ساحر الحروف والكلمة وناسج خيوط سندريلا التي كانت تحلم بها دومًا، وألقت بذاتها المنهكة في بحاره. وإذ بيده الحانية تربت عليها وتهدئ من روعها، فقالت بصوت غير مسموع به كل خوف الدنيا: هل أنت ساحر حقيقي؟ فصمت طويلًا، ينظر إليها بعينين تحملان الكثير من الفهم، قبل أن يجيب عليها بهدوء: "في هذا العالم الذي فقد الكثير من إنسانيته، يصبح التعاطف والصدق فعلًا سحريًا. الساحر الحقيقي الآن في مجتمع المسوخ هو من يكون إنسانًا." كلماته الدافئة اخترقت جدار خوفها المتراكم. فأُغشي عليها من وهج السعادة التي شعرت بها من خلال صوته المنغم في أذنها وكلماته التي تهز أركان روحها حتى تستيقظ من سباتها الطويل والعميق. وعندما أفاقت من غفوتها، ذهبت تتأمل واقع المسوخ، هذا المجتمع الذي بدا باهتًا وفاقدًا للروح، ومقارنتها بطعم ماء حروف ساحرها الذي أيقظ فيها الحياة، وبعد صراع دامٍ مع ذاتها المسفوح دمها على مذبح الواقع وذاتها القابعة داخلها التواقة للحياة.
مدت يدها داخل صندوق الدنيا مستغيثة بحروفه، علها تكون طوق النجاة من البركة الآسنة التي مكثت بها سنوات. وإذ بصاحب الحروف يلقي بنفسه في البركة الآسنة لانتشالها من مستنقع القبح الإنساني، وذهب بها إلى جزيرة أحلامها، وهناك، بدأت تشعر بأنها أصبحت سندريلا الحقيقية، سندريلا التي لم تنتظر معجزة خارجية بل اكتشفت سحرها الداخلي.
فقامت بتجميع كل أحزانها المتراكمة داخلها وجعلت منها هرمًا شامخًا، ووقفت عليه هاتفﺔ بأعلى صوت: أصبحت سندريلا لأنني قابلت ساحري الحقيقي، الذي لم يسحرني بل أيقظ إنسانيتي وعانقت ذاتها بذاتها، ورقصت رقصة فالس حرة على أنغام موسيقى صوت الحياة الجديدة التي بدأت تدب في أوصالها.