مما لا شك فيه أنك تعيش في ظلام إنساني غير مسبوق على كافة المستويات، وربما لم تمر البشرية بهذا الانحطاط غير العادي من الكل إلا من رحم ربي، وهم ندرة. ومع ذلك، يجب التنبيه إلى أن هذه رؤية عامة قد تحتاج إلى تدقيق في سياقات محددة.
أولى تلك الإشارات في طريق الظلام هي الكراهية بكل أشكالها، والكارثة بدون سبب أو حتى نتيجة، وكأن الكراهية للكراهية وفقط، وكما أطلقت عليها سابقًا "الكراهية المجانية"، أي التي تمارسها دون أي دافع أو حتى الحصول على ثمار لها.
لماذا الكراهية المجانية؟ أحد أهم أسبابها قد يكون فقدان معنى الحياة، والانسحاق الداخلي، وعدم اعتراف المجتمع بوجود الفرد مهما فعل، مما يدفعه لممارسة الكراهية كنوع من إثبات الوجود. يمكن لعلم النفس الاجتماعي أن يقدم رؤى حول هذه الدوافع الفردية، مثل الحاجة إلى الانتماء أو الرغبة في التعبير عن الذات بطرق سلبية عند غياب القنوات الإيجابية.
ثاني تلك الإشارات في طريق الظلام هي الانتقام أيضًا المجاني، بالانتقام من أشخاص أو فئات دون سابق معرفة أو علاقة، مدفوعًا بتحريض من يصورون المختلف كعدو. هذا ما يمكن الاصطلاح عليه بالإقصائية والنفي للآخر. نشاهد تنامي النزاعات الإقصائية حول العالم على أسس مختلفة، مما يؤكد خطورة هذه النزعة.
ثالث تلك الإشارات في طريق الظلام هي الاحتقار لكل شيء وأي فكر آخر، كمحاولة لإقناع الذات بالتفوق أو الحماية من "المؤامرات". هذا الانغلاق الفكري يحرم الفرد من النمو ويؤدي إلى جمود في التفكير.
الكراهية والانتقام والاحتقار، ثلاثية تدمير الإنسان ومن ثم الحضارة. والسبب في تلك الثلاثية قد يكون البحث المشوه عن التميز ونيل الاحترام. تاريخ العالم الحديث يشهد على حروب لا تتوقف، مخلفة ملايين الضحايا.
ترى ما هو السبب الحقيقي لوجود الثلاثية المقيتة وترسيخها في نفوس البشر العادية؟ أرى أن أحد الأسباب قد يكون في بعض تداعيات أو تفسيرات معينة للثقافة التي تتأسس على العلمانية والحداثة، والتي قد تمجد الفردانية المفرطة على حساب المسؤولية الجماعية والتعاطف. الأمثلة من الحروب الصليبية وفلسفات معينة ووسائل الإعلام المختلفة تشير إلى تجذر هذه النزعات. بالإضافة إلى ذلك، تلعب العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مثل عدم المساواة والظلم والصراعات على الموارد، دورًا هامًا في تغذية هذه المشاعر السلبية. كما أن الصدمات التاريخية والاجتماعية يمكن أن تترك آثارًا عميقة تساهم في توليد الكراهية والانتقام بين الأجيال. تتجلى هذه الثلاثية في مظاهر متنوعة، من التعصب عبر الإنترنت إلى الصراعات العنيفة، ولها تأثير مدمر على الصحة النفسية للأفراد وعلى تماسك المجتمعات.
بالنظر إلى الجذور الفلسفية والأخلاقية لهذه المفاهيم، يمكن اعتبارها مزيجًا معقدًا من الغرائز الطبيعية والتأثيرات المكتسبة من البيئة والمجتمع. وقد تناولت العديد من النظريات الفلسفية هذه الجوانب عبر التاريخ. كما أن مظاهر وأسباب هذه الثلاثية قد تختلف بين الحضارات والثقافات المختلفة، وقد نجحت بعض النماذج الثقافية في الحد منها من خلال التركيز على قيم التعاون والتسامح.
الحل للهروب من الثلاثية المقيتة هو: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ (50) الذاريات. هذه دعوة للبحث عن السكينة الروحية والقيم الأخلاقية.
وعن الكيفية للهروب هو: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ
والله أعلى وأعلم.