الحب والصمت الصاخب

الحب والصمت الصاخب 
============

تتجلى رؤية عميقة للعالم الداخلي للإنسان وعلاقته بالحب والصمت في هذه الكلمات. لا يقف الصمت هنا عند حدود الامتناع عن الكلام، بل يرتقي ليصبح لغة أخرى، لغة "الصمت كلمات خرساء تسمع بالعيون"، لغة تحمل في طياتها مشاعر وأفكارًا قد تعجز الحروف المنطوقة عن الإفصاح عنها. إنه ليس فراغًا، بل هو فضاء داخلي يعج بالكلمات "الخرساء" التي تنتظر وسيلة أخرى للتعبير، سواء كانت نظرة، إيماءة، أو حتى إبداعًا فنيًا كالكتابة التي يصفها الشاعر بأنها تعبير عن "كل ما اكتبه عنك ماهو الا تعبير عن الصمت الصاخب داخلى". وكما أن "القيثارة هى / وانا مجرد عازف"، فالإنسان في حالة السكون صامتًا، ولكنه يحمل بداخله كنوزًا من المشاعر والأفكار التي تنتظر من يلامسها أو يحفزها للتعبير، تمامًا كأنامل العازف التي تطلق الألحان من القيثارة الصامتة. في كثير من الثقافات، يرتبط الصمت بالحكمة والتأمل. وقد تعكس الأبيات إشارة إلى أن أعمق المعاني والأفكار قد تتشكل في صمت الروح، قبل أن تجد طريقها إلى العلن، وكأن الصمت هو المختبر الذي تتخمر فيه أسمى الأفكار. وفي عالم مليء بالضجيج والتلوث السمعي، يمكن أن يكون الصمت ملاذًا للروح، ومساحة للتفكير العميق واستعادة التوازن الداخلي، كما يتضح في "عينكى محطة أستراحة لقلبى المهدد بالهجران من اضلعى"، حيث يجد القلب المرهق نوعًا من السكون والسلام المطمئن في حضرة المحبوب.

أما الحب، فيتجلى في هذه الأبيات كقيمة وجودية عليا. إنه ليس مجرد عاطفة عابرة، بل هو "لأن العشق حياة داخل الحياة، / لأن العشق حياة لمن بعدت عنه الحياة، / لأن العشق حياة لمن بعد عن الحياة، / لأن العشق هو الحياة الحقيقية البعيدة عن الزيف والسفه، / لأن العشق ما هو إلا الإنسان الحقيقى"، و"الحياة الحقيقية" التي تمنح الوجود معنى وأبعادًا أعمق. تتضح مراحل هذا الحب في رحلة تصاعدية تبدأ بـ "الحب عندى طاقة نور على الحياة ثم ينطلق نحو الحياة الحقيقية ويكون عشق وهنا تكون حياة جديدة ينعم بها العاشق ثم يكون الهيام وهو انطلاق لافاق لا يقدر عليه الا اصحاب الهمم". هذا الحب ليس أنانيًا أو مقتصرًا على الذات، بل هو عطاء وتأثير يتجاوز الحدود الفردية، حيث يرتبط إسعاد المحبوبة بسعادة الكون كله كما في "حدثتنى وتكلمت انا، / اعشق كلماتى التى تذهب لها لانها تسعدها، / وعندما تسعد هى الكون كله يملئ سعادة". الحب هنا قوة دافعة للإبداع والتواصل، فهو يلهم الكلام ويحفز الشعر، كما في "انا احب الاذن التى تجعلنى اقول شعرا".

تبرز الأبيات أيضًا نظرة استثنائية للمحبوب، فهو ليس شخصًا عاديًا، بل "انا احب العالم الساكن فى المقل، / انا احب النغم الساطع من اوراق الورد، / انا احب امراءة استثنائية، / امراءة هى الحياة". هذه الرؤية الفريدة التي يمنحها الحب للعاشق تجعله يرى الجمال والتميز في تفاصيل قد لا يراها الآخرون، وكأن الحب يمنح عينًا جديدة ترى العالم بجمال مختلف. وقد يتضمن الحب جوانب متجاوزة للعقلانية المنطقية، كما في "لا تنتظر من العاشق إلا الدرر المغلف بالشطط الملامس للقليل من العقل الذى اذا رسى فى الروح تشظت لتنثر عبير نشوة السعادة على الإنسانية". هنا، يوصف الحب بأنه قد يحمل شيئًا من الجنون أو الخروج عن المألوف ("الشطط") ولكنه يحمل في جوهره قيمة عظيمة ("الدرر") وعندما يستقر في الروح، يحدث تحولًا عميقًا ينشر السعادة.

يبقى التساؤل حول معنى "حب بدون مليطة / يبقى عامل زاى الطبيخ من غير ملح ولحمة"، وهو تشبيه يستدعي فهمًا أعمق للسياق الثقافي أو اللهجة المستخدمة. إلا أن هذا التشبيه يؤكد على أهمية وجود عناصر جوهرية وأساسية في الحب، تمامًا كأهمية الملح واللحم في إضفاء النكهة والقيمة على الطعام. وبالمثل، فإن الحب الحقيقي لا يكتمل إلا بوجود عناصر أساسية تمنحه قوته واستمراريته.

في الختام، تحمل هذه الأبيات دعوة للتأمل في قوة الصمت كلغة عميقة، وفي عظمة الحب كقيمة أساسية للوجود الإنساني. إنهما قوتان متكاملتان، حيث قد يكون الصمت هو التربة الخصبة التي ينمو فيها الحب ويتعمق، والحب بدوره يمنح الصمت معنى وقوة تعبيرية فريدة، كما يتضح في "كل ما اكتبه عنك ماهو الا تعبير عن الصمت الصاخب داخلى / اما لو تحدثت بطلاقة فلن تسمعوا غيرى". فالكتابة هنا تصبح وسيلة لإخراج هذا الصمت الداخلي المليء بالشعور تجاه المحبوب.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.