من أجل نقاش مثمر يخدم الصالح العام، يتعين علينا جميعًا التجرد وتجنب شخصنة الأمور. وفي هذا السياق، لا أدعي امتلاك الحكمة المطلقة أو التفوق في الحرص على المصلحة العامة. فالحقيقة، هناك من هم أكثر مني علمًا، وأفضل خلقًا، وأحسن في الكتابة وسرد أفكارهم. إن الاعتراف بهذه الحقيقة هو الخطوة الأولى نحو حوار حقيقي وبناء، حوار لا يقوم على التسابق نحو إثبات الذات، بل على السعي المشترك نحو فهم أفضل للقضايا المطروحة.
ولكن، هل لأني أطالب بحقي في إبداء رأي، أو أعارض أسلوبًا أراه غير مناسب، أو أفند أسباب رفضي لشيء ما بناءً على قناعاتي، أستحق كل هذه الحدة في الرد؟ غالبًا ما يواجه من يحاول تقديم وجهة نظر مختلفة ردود فعل قوية ومتشنجة من أطراف متعددة، وكأن هذا الرأي المنحاز، الذي قد لا يروق للبعض، قد اختزل كل أخطاء الماضي، وربما بات المتسبب الوحيد في كل الأخطار والتحديات التي تحيط بنا. هذا التضخيم لرأي فردي وتحويله إلى كبش فداء هو علامة على ضيق الأفق وعدم الرغبة في الاستماع إلى صوت العقل.
يا سادة:
إنني لا أحبذ الشتائم؛ لأنها تبدد الطاقة الغاضبة التي أود استثمارها بشكل بنّاء في اقتراح حلول أو إثارة نقاشات معمقة. فالكلمة الطيبة والحجة المقنعة هما الأدوات الأكثر فاعلية في تحقيق التغيير الإيجابي، بينما الشتائم لا تولد إلا مزيدًا من الكراهية والانقسام.
كما أنني أنأى بنفسي عن اللغة المحنطة، تلك التي تعيق ذوباننا جميعًا في بوتقة واحدة اسمها مصر. هذه اللغة، التي غالبًا ما تكون مليئة بالشعارات الرنانة والعبارات الجوفاء، تخلق حواجز وهمية بين أبناء الوطن الواحد. فعندما تكون مصر للجميع، ويقف الجميع على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، يصبح اختلافنا قوة إثراء حقيقية، ومصدرًا للإبداع والتنوع، لا سببًا للتفريق وزيادة الفجوة بيننا. إنني أسعى بكل ما أوتيت من قوة لإقامة الجسور المتينة التي هدمت بفعل فاعل، جسور من الثقة والتفاهم والاحترام المتبادل.
إن حديثي هنا ينطلق من واقعية سياسية، لا من أحلام أو أمنيات وردية. فالواقعية تدرك موقعنا الحقيقي على الخريطة، وقيمتنا وتأثيرنا في الشارع، والأهم من ذلك، حجم قوتنا الحقيقية مقارنة بقوة الخصوم والتحديات المحيطة بنا. بناءً على هذا الإدراك العميق يكون التصرف الرشيد. أما تخدير الجموع بأمنيات بعيدة المنال، وتصوير الأوهام على أنها حقائق وشيكة، فلن يؤدي إلا إلى السراب وخيبة الأمل لأسباب داخلية وخارجية جمة ومعقدة.
إنني ضد التعصب الأعمى، ضد تلك "الدروشة" الفكرية التي تصنف الناس تصنيفًا قاطعًا إلى فسطاطين لا ثالث لهما: "نحن الملائكة الذين نمتلك الحقيقة المطلقة، ومن خالفنا الرأي فهم شياطين أو عملاء أو كفار" - وهذا الكلام موجه للجميع دون استثناء -. هذا المنطق الإقصائي يقضي على أي فرصة لحوار حقيقي أو تبادل للأفكار.
كما أنني ضد الابتعاد عن جوهر القضايا الأساسية والانغماس في مهاترات يومية حول فعل عابر أو تصريح لحظي. فهذه المتاهات الصغيرة تستنزف طاقتنا ووقتنا الثمين بلا أدنى عائد إيجابي على المدى الطويل، سواء لأنصارنا الذين يتم تضليلهم بهذه التفاصيل الصغيرة، أو للطرف الآخر الذي يرى في هذا الانشغال دليلًا على سطحية الفكر.
أخيرًا، من أنا في كل هذا السياق المعقد؟ مجرد كاتب بسيط لبضع كلمات قد تلامس قلوب قلة قليلة من الناس. رجل يعشق هذا الوطن بعمق وإخلاص، بلا أي انتماء لفصيل سياسي ضيق أو جماعة ذات أجندة خاصة أو حزب يسعى للسلطة. عشقي المطلق لمصر وللحقيقة المجردة، بغض النظر عن مصدرها أو قائلها. عقيدتي الإسلامية الراسخة هي التوحيد الخالص لله عز وجل، وهي التي توجه بوصلة فكري وأخلاقي.
يا سادتي - وأتوجه بالقول الصادق للجميع -: إن كان اختلافي معكم ليس سعيًا وراء تميز زائف أو شهرة عابرة، أو ادعاءً لحكمة غير موجودة، أو بحثًا عن بطولة زائفة في معركة وهمية، بل نابعًا مما شرحته آنفًا من أسس واقعية وقناعات شخصية، فأرجو منكم السماح لي بإبداء هذا الاختلاف بصوت واضح ومسموع. فلتتصوروا ولو للحظة أننا جميعًا بشر أسوياء، نمتلك عقولًا وقلوبًا، وأن لكل منا الحق في تكوين رأي مستنير مبني على أسس حقيقية ومنطقية، وليس مجرد ردود فعل عاطفية تعمي العقل قبل العين عن رؤية الواقع بكل تعقيداته.
وفي الختام، فحقكم عليّ أن أستمع إليكم كما أتمنى أن تستمعوا إليّ، وسأعود قارئًا متفكرًا كما بدأت مسيرتي، وسأكتب ما يمليه عليّ ضميري وواجبي تجاه هذا الوطن العزيز هنا.
فمن رأى في كلماتي ما يستحق القراءة والتمعن، فمرحبًا به. ومن وجد فيها ما يستحق النقد البناء والهادف، فليتفضل مشكورًا. ومن اعتبرها مجرد حروف مرصوصة بلا نفع يذكر، فله كامل الحق في رأيه. ومن رآها كغثاء السيل الذي لا يترك أثرًا، فأهلًا به أيضًا، ولكن أرجو أن يكون النقد دون إسفاف أو تحويل النقاش إلى معركة شخصية. وسأحاول جاهدًا التزام الصمت والتأمل أمام الهيستيريا العاطفية التي لا تخدم قضية ولا تبني فكرًا، والتي سنندم عليها جميعًا في مستقبل قريب جدًا.