عاطف الطيب: صرخات تحت هضبة الأهرام
السؤال يبدو غريبًا ولكني أراه مفتاحًا حقيقيًا للولوج لعالم الطيب. الإجابة الطبيعية هي أنه مخرج لبعض جواهر السينما المصرية، وإجابة أخرى قد تتحدث عن مناقبه من الميلاد للممات. ولكني أرى الإجابة غير هذا تمامًا.
عاطف الطيب، ذاك المصري المهووس والمتيم بمعشوقته مصر، ونظرًا لأنه مثقف من طراز خاص ويملك أدواته التي تجعله متفردًا في عشقه، من هذا الباب دخل عاطف العقول قبل القلوب. لم يجمل معشوقته، بل أفاض في القيوح التي ظهرت على وجهها الجميل من فعل بعض أبنائها، ولذا كان أسلوبه الصادم والجّارح في معالجة تلك القيوح بمنتهى العشق وليس انتقامًا منها.
لذا نجد سينما عاطف الطيب هي سينما البحث عن الإنسان المصري الذي تم تغييره وأُبدل بمسخ لا يعرفه ولم يعاشره، سواء في بلد المنشأ الأول له سوهاج، أو منطقة المعيشة بولاق الدكرور - الجيزة، ولم يحارب معه كتفًا بكتف خلال الفترة من التحاقه بعد تخرجه بالجيش لأداء الخدمة العسكرية (1971 ـ 1975). على الرغم من أن القضية الأساسية في أفلامه تدور حول الإنسان المصري والتغيرات التي طرأت عليه، إلا أنه لم يحصر نفسه في قالب واحد. تنوعت أفلامه في تناول قضايا الفساد، السلطة، الإعلام، الطبقات الاجتماعية، وحتى العلاقات الإنسانية المعقدة، لكن كلها كانت تصب في النهاية في هذا الهاجس الأساسي.
من هنا كانت أفلامه هي صرخات مدوية في الفضاء لإعلام الكل أن هذا الشخص الموجود على أرض الواقع ليس المصري الحقيقي. لذا تجد أولى دُرره "البريء"، وأظهر به كل الملوثات التي لوثت أحمد سبع الليل. حاول أن تنظر لدلالة الاسم، إنه ذاك الإنسان المصري الحقيقي. ثم تتوالى دُرره في "ضد الحكومة" وكيفية صناعة المسخ في غابة الفساد الشاسعة، والأمل غير المفقود في عودته لذاته مهما وصل لقاع مستنقع الفساد. تميزت أفلامه بواقعية شديدة، لم تتردد في إظهار الجوانب القبيحة والمؤلمة في المجتمع. لم يكن يسعى للتجميل أو التستر، بل كان يواجه المشاكل بجرأة وصراحة قد تكون صادمة للبعض. هذه الواقعية هي التي منحت أفلامه مصداقية وتأثيرًا قويًا. حتى في أكثر أفلامه قتامة وتشاؤمًا، كان هناك دائمًا خيط رفيع من الأمل أو الرغبة في التغيير. شخصياته غالبًا ما تكون ضحية للظروف، لكنها في الوقت نفسه تحمل بداخلها بذرة مقاومة أو حنينًا إلى وضع أفضل. هذا التوازن بين الواقع المرير والأمل الخافت هو ما يجعل أفلامه مؤثرة وليست مجرد تسجيل لليأس.
ولا ننسى العبقرية المتفردة جدًا وهي "الهروب" وكيفية صناعة الحدث الإعلامي الفقاعة التي تلتهم أي حقيقة أمامها مهما كانت راسخة. أما "كشف المستور" من وجهة نظري فهو السباحة ضد كل التيارات العفنة والتي تتشدق بالوطنية وحب البلد، وكأنه وصل لقناعة بأنه يرفض صكوك الغفران من الأسياد المزعومة التي تتصور أنها تملك الحقيقة وحدها، وأن على الآخرين السمع والطاعة صاغرين دون التلفظ حتى بالآهات من الألم الناتج عن الفشل الذي يمارسونه بكل نجاح. لا يزال تأثير عاطف الطيب ممتدًا حتى اليوم. الكثير من المخرجين والكتاب الشباب يعتبرونه مصدر إلهام، ويستلهمون من أسلوبه الجريء في تناول القضايا الاجتماعية والسياسية. أفلامه لا تزال حاضرة في النقاشات السينمائية والثقافية، وهذا يدل على عمق رؤيته وصدق فنه. على الرغم من تناوله لقضايا صعبة، استطاعت أفلام عاطف الطيب أن تجد طريقها إلى قلوب الجمهور. ربما لأن الناس شعروا بصدقه وأنه يعبر عن همومهم وتساؤلاتهم. كانت أفلامه تفتح نقاشات حقيقية وتلامس قضايا كانت مسكوتًا عنها في كثير من الأحيان. من المهم أن نتذكر أن عاطف الطيب عمل في ظروف إنتاجية قد تكون مختلفة عن اليوم. ومع ذلك، استطاع أن يقدم أعمالًا فنية ذات قيمة عالية بتوافر الإمكانيات المتاحة آنذاك، وهذا يزيد من تقديرنا لإبداعه.
عاطف الطيب لم يكن الطبيب الجراح الذي حاول العلاج وفشل، ولكن ذاك المثقف الفاعل لمجتمع أصابه التكلس والكسل العقلي وموت الروح. فكانت صيحاته نوعًا من نوبات الاستيقاظ لهؤلاء الموتى، ربما يستيقظوا قبل فوات الأوان. ولكن بكل أسف، كانت صيحات تحت هضبة الأهرام وليست حبًا فوق هضبة الأهرام.
ولد في سوهاج في 26 ديسمبر عام 1947، وتخرج من المعهد العالي للسينما قسم الإخراج عام 1970، وتوفي في 23 يونيو عام 1995.
تلك لمحة عن عبقري وليس كل شيء عنه، ربما يجعل الآخرين يبحثون في سيرته للتعلم والنهل من عطائه الفياض. في النهاية، يمكن القول إن عاطف الطيب لم يكن مجرد مخرج سينمائي، بل كان صوتًا جريئًا ومهمًا سعى بصدق إلى فهم وتحليل الواقع المصري وتقديم رؤيته الخاصة من خلال عدسة الكاميرا. أفلامه ليست مجرد تسلية، بل هي وثائق فنية واجتماعية تستحق المشاهدة والتأمل.