- "الطفيلي": السينما الكورية تكتب التاريخ بدم ودموع
تحليل فيلم "الطفيلي": من المحلية إلى العالمية ونقد الرأسمالية المتوحشة
لقد شهدت السينما لحظة تاريخية فارقة بدخول الفيلم الكوري الجنوبي "الطفيلي" سجلاتها من أوسع الأبواب. فبعد مسيرة بدأت بمحلية شديدة الخصوصية، استطاع الفيلم أن يعبر الحدود ليصل إلى العالمية ويتوج بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم في النسخة الثانية والتسعين من حفل توزيع الجوائز المرموقة، ليصبح بذلك أول فيلم ناطق بلغة أجنبية يحقق هذا الإنجاز الرفيع. وقد تفوق "الطفيلي" على كبار المنافسين مثل "1917" و"الجوكر" و"ذات مرة في هوليوود"، ليؤكد على قوة وتميز الصناعة السينمائية الكورية وقدرتها على مخاطبة الوجدان العالمي.
لم تتوقف إنجازات الفيلم عند جائزة أفضل فيلم، بل امتدت لتشمل فوز المخرج المبدع "بونغ جون هو" بجائزة أفضل مخرج، متفوقًا بذلك على أسماء لامعة في عالم الإخراج مثل مارتن سكورسيزي وكوينتن تارانتينو. كما حصد الفيلم جائزتي أفضل سيناريو أصلي وأفضل فيلم أجنبي، ليُسجل بذلك صفحة جديدة في تاريخ السينما الكورية الممتد لأكثر من قرن، ويُعد هذا الفوز الأول من نوعه لفيلم غير ناطق بالإنجليزية في تاريخ جوائز الأوسكار.
يكمن السر وراء هذا النجاح الباهر، في رأيي المتواضع، في تناول الفيلم لقضية إنسانية عالمية وهامة جدًا، ولكن بطريقة طرح بسيطة وواضحة، بعيدة عن التعقيدات الفلسفية. لقد استطاع فريق العمل ببراعة أن يقدم نقدًا لاذعًا للرأسمالية المتوحشة، وهذا النقد ينبع من قلب أحد معاقل هذه الرأسمالية في العالم، وهي كوريا الجنوبية نفسها.
رمزية القبو والتفاوت الطبقي:
يسلط الفيلم الضوء بحدة على التفاوت الطبقي الصارخ وغير العادي بين الطبقات الفقيرة والثرية في المجتمع، ويتجلى هذا التفاوت مكانيًا في تصوير مسكن عائلة كيم في قبو بائس، يمثل الطبقة الدنيا المسحوقة والمهمشة اجتماعيًا ونفسيًا. هذا القبو ليس مجرد مكان للإقامة، بل هو رمز للعزلة واليأس. وبالمقابل، يعكس منزل عائلة بارك الفخم في الكمبوند عالمًا آخر من الثراء والخصوصية. إن وجود عائلتين تعيشان في القبو (في البداية عائلة بارك بشكل مؤقت، ثم عائلة كيم بشكل دائم) يعزز من هذه الرمزية، مؤكدًا على أن الهامشية قد تصيب حتى الأغنياء بشكل أو بآخر.
دوافع الشخصيات وصراع البقاء:
كان السرد السينمائي ناعمًا وسلسًا بما يكفي ليلامس المشاهد في أي مكان في العالم. ففي البداية، نتعرف على أسرة فقيرة تعيش في قبو بائس، تفتقد لأبسط مقومات الحياة الكريمة، حيث يعاني الأب والأم من البطالة ويقطنون في منطقة قذرة. ومع ذلك، تحاول هذه الأسرة التمسك بالحياة بكل ما أوتيت من قوة وصبر، دون تذمر أو شكوى. دوافع عائلة كيم للبقاء في منزل عائلة بارك تتجاوز مجرد الطمع؛ إنها الرغبة الملحة في حياة أفضل وانتهاز فرصة للخروج من دائرة الفقر. أما دوافع زوج مديرة المنزل السابق فتنبع من ولاء مشوه وحاجة ماسة للبقاء على قيد الحياة في عالمه السفلي.
"الطفيلي": من هو المستفيد؟
يحمل الفيلم عنوان "الطفيلي"، ويطرح سؤالًا محوريًا: من هو الطفيلي الحقيقي؟ هل هي العائلة الفقيرة التي تتطفل على ثروة الأغنياء سعيًا للبقاء، أم أن النظام الرأسمالي نفسه هو الطفيلي الأكبر الذي يمتص دماء الفقراء ويوسع الفجوة بينهم وبين الأغنياء؟ الفيلم لا يقدم إجابة مباشرة، بل يترك للمشاهد حرية التفكير والتأمل في هذه المعضلة الأخلاقية والاجتماعية.
المزج بين الكوميديا السوداء والدراما:
يتميز الفيلم ببراعة في مزج الكوميديا السوداء بالدراما الاجتماعية. هذا التناقض يخلق تأثيرًا مضاعفًا على المشاهد، حيث يضحك في لحظات ثم يصطدم بواقع قاسٍ ومؤلم. هذا المزج الفريد يساهم في توصيل الرسالة النقدية بشكل أكثر تأثيرًا وجاذبية، ويجعل المشاهد يفكر بعمق في القضايا المطروحة.
تحليل بصري وسمعي:
يخدم التصميم البصري والسمعي للفيلم القصة بشكل ممتاز. فالإضاءة الخافتة والألوان الداكنة في منزل عائلة كيم تعكس بؤسهم وعزلتهم، بينما يعكس اتساع منزل عائلة بارك والإضاءة الجيدة عالمهم المريح. الموسيقى التصويرية تتراوح بين النغمات الهادئة واللحظات التصعيدية، مما يعزز من الحالة المزاجية لكل مشهد. حتى تصميم المنزل نفسه، بفصل الطابق العلوي عن القبو، يعكس الانقسام الطبقي.
عالمية القضية ونهاية مفتوحة:
إن قضية التفاوت الطبقي ليست حكرًا على كوريا الجنوبية، بل هي واقع عالمي يتجلى في صور مختلفة في كل مجتمع. هذا ما جعل الفيلم يلامس قلوب المشاهدين في مختلف أنحاء العالم. أما نهاية الفيلم المفتوحة، حيث يعود الابن إلى قبو منزله القديم ويحلم يومًا ما بشراء ذلك المنزل، فهي تترك المشاهد مع شعور مختلط من اليأس والأمل الضئيل، مما يؤكد على صعوبة كسر حلقة الفقر.
النجاح العالمي وتجاوز الحواجز اللغوية:
لقد تجاوز نجاح فيلم "الطفيلي" الحواجز اللغوية والثقافية بفضل عالمية القضية التي يطرحها والبراعة السينمائية التي تتجاوز حدود اللغة. كما لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا هامًا في انتشاره وزيادة الوعي به عالميًا، مما يدل على قوة السينما في مخاطبة الإنسانية جمعاء.
باختصار، فيلم "الطفيلي" ليس مجرد عمل سينمائي متميز، بل هو مرآة تعكس واقعًا اجتماعيًا واقتصاديًا عالميًا، ويطرح أسئلة مهمة حول العدالة والمساواة وصراع البقاء في ظل نظام رأسمالي قد يكون هو الطفيلي الأكبر.