"بطل" فرهادي: تشريح مجتمع يتوق للأبطال الزائفين.
---------------------------------
"بطل" لأصغر فرهادي: لعبة البطولة الزائفة في مجتمع قاسٍ (نسخة موسعة)
هل يمكن للصدفة أن تصنع بطلاً؟ وهل يمكن للمجتمع أن يتبنى أكذوبة ليستر عوراته؟ أصغر فرهادي، المخرج الإيراني البارع، يعود بنا في فيلم "بطل" (A Hero) إلى أعماق النفس الإنسانية ليطرح أسئلة مؤرقة حول الأخلاق، الشرف، وقسوة الحياة التي تدفع البعض إلى حافة الكذب. الفيلم ليس مجرد قصة عن سجين يحاول استعادة حياته، بل هو مرآة تعكس هشاشة قيم مجتمع يتلهف للأبطال حتى لو كانوا من ورق.
فرهادي كعادته يعشق التفاصيل الصغيرة، والمشهد الأول يختزل الكثير: رجل يخرج في إجازة من السجن، يحاول جاهداً اللحاق بحافلة الحياة، لكنه يفشل. هذه اللقطة البسيطة ليست مجرد تأخير عادي، بل هي استعارة بصرية قوية تلخص شعور البطل بالعزلة والضياع، وكأنه يحاول عبثًا اللحاق بركب مجتمع لا ينتظره.
الفيلم يناقش تيمة البطولة بشكل معقد من خلال شخصية رحيم، البطل الظاهري. عثوره على الحقيبة الذهبية وإعادته لجزء منها يجعله في نظر البعض شخصًا نبيلاً يستحق الثناء. لكن دوافع رحيم ليست واضحة تمامًا. هل هو فعل خير خالص أم محاولة محسوبة لتحسين صورته أمام الدائنين والمجتمع؟ الفيلم يترك هذه المساحة مفتوحة للتأويل، مما يجعل شخصية رحيم أكثر إنسانية وواقعية. ضعفه وتردده في بعض المواقف يجعلاننا نشكك في "بطولته" المعلنة.
دور الإعلام هنا يتجاوز مجرد نقل الأخبار ليصبح أداة لتشكيل الرأي العام وتوجيهه. التغطية السطحية لقضية رحيم وصناعته كبطل شعبي يخدم مصالح جهات معينة، سواء كانت إدارة السجن التي تسعى لتحسين صورتها، أو الجمعيات الخيرية التي تبحث عن متبرعين. هذا التسليط المبالغ فيه للضوء على فعل بسيط نسبياً يخفي وراءه حقيقة أكثر تعقيداً وقسوة.
شخصية والد المطلقة، من ناحية أخرى، تمثل الجانب الأكثر صلابة وربما قسوة في المجتمع. إصراره على استرداد كامل دينه، حتى بعد تعاطف الرأي العام مع رحيم، يكشف عن واقع اقتصادي واجتماعي لا يرحم الضعفاء. إنه يرى في رحيم مجرد مدين مراوغ، ولا يلتفت إلى محاولاته لتحسين وضعه. هذه الشخصية تذكرنا بأن "البطولة" الإعلامية قد لا تعني شيئاً لمن اكتوى بنار الحاجة والظلم.
فيلم "بطل" يحمل بصمة أصغر فرهادي المميزة في استكشاف العلاقات الإنسانية المعقدة وتداخل المصالح والأخلاق. كما في فيلمه "البائع المتجول"، نرى كيف يمكن لحادثة بسيطة أن تكشف عن طبقات عميقة من الأكاذيب والتنازلات. فرهادي لا يقدم إجابات جاهزة، بل يدعونا للتفكير في المنطقة الرمادية بين الخير والشر، وبين الحقيقة والكذب.
المشهد الذي يواجه فيه رحيم كاميرات التلفزيون ويحاول جاهداً الحفاظ على صورته "البطولية" هو من أكثر المشاهد إيلاماً في الفيلم. نرى هنا كيف يصبح الإنسان أسيراً لصورة صنعها له الآخرون، ويضطر للتضحية بحقيقته الداخلية من أجل الحفاظ عليها. هذه اللحظة تكشف عن زيف البطولة المصطنعة وعن الثمن الباهظ الذي يدفعه الفرد مقابل رضا المجتمع.
ختاماً، فيلم "بطل" ليس مجرد قصة عن سجين وقضية دين، بل هو تحليل دقيق وقاسٍ لمفهوم البطولة في عالمنا المعاصر. إنه فيلم يرينا كيف يمكن للمجتمع أن يصنع أبطالاً من وهم، وكيف يمكن لهذه الأوهام أن تتحطم على صخرة الواقع. إنه عمل سينمائي مؤثر يدعونا للتساؤل عن قيمنا ومعاييرنا، وعن الثمن الحقيقي الذي ندفعه جميعاً في لعبة البحث عن "البطل".