النفاق الاجتماعى
حين يصبح الزيف نمط حياة
=========
النفاق الاجتماعي.. قناع الزيف الذي يفتك بتماسك مجتمعاتنا:
النفاق الاجتماعي ليس ضربًا من النفاق الديني البغيض الذي يظهر فيه المرء الإيمان ويبطن فيه الكفر والعياذ بالله، بل هو نمط سلوكي اجتماعي معقد، يتغلغل في العلاقات الفردية، ويعد من الأمراض الاجتماعية الفتاكة التي تؤثر بقوة على نسيج المجتمع وتماسك أفراده. ويكمن خطره الحقيقي في أن النفاق عمومًا سلوك مذموم ومنبوذ فطريًا، والمنافقون أشخاص مكروهون ومزيفون في تعاملاتهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم قولًا بليغًا يصف حال المنافق: "تجد من شر الناس يوم القيامة عند الله ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه".
وذو الوجهين هو ذلك الشخص الانتهازي الذي يأتي كل طائفة أو جماعة بما يرضيها من القول والفعل، فيظهر لكل طرف أنه منهم ومخالف تمامًا للطرف الآخر المعادي لهم.
وعن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال قولًا شديد الوقع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان له وجهان في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة". رواه أبو داود.
في كثير من الأحيان، ينخرط الإنسان في هذا التصرف المخادع إما بدافع من ذكائه الحاد الذي يوظفه في تحقيق مآربه، أو سعيًا وراء مصلحة دنيوية عاجلة، ويدخل في ذلك تحقيق المصالح الاجتماعية الضيقة أو الترقي في مصالح العمل. وقد ينوي البعض من وراء ذلك اتقاء شر الناس وتجنب عداوتهم، فيظهر الود لهذا ويجامل ذاك، وهو في الأصل لا ينتمي بقلبه وصدقه لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
من أبرز وأخطر درجات النفاق الاجتماعي التي نشهدها في واقعنا المعاصر:
هو الانخراط الزائف والمضلل في معترك السياسة الإقليمية والدولية، حيث تتجلى فيه صور من النفاق يصعب تصورها، حتى أنك ستجد فيه من العجائب والطرائف ما قد لا تجده في أعتى كتب السحر الأسود، مع إضافة لمسة إسلامية سطحية وبراقة حتى تجعل السؤال الصريح الذي يطرحه البعض دون وعي أو إدراك: هل هؤلاء هم شعب الله المختار دون أن ندري حقيقة أمرهم؟ مثال صارخ على ذلك:
الصراع المعقد بين تركيا وأمريكا صراع له جذور تاريخية عميقة وأسباب متشعبة بعيدًا كل البعد عن الأحداث الآنية والتحولات الحالية. ومن أبرز مظاهره تقلبات الليرة التركية. هنا ينبرى الكثيرون بجهل وتعصب قائلين بلهجة الواثق: إن الله عز وجل لن يترك الأتراك وحدهم في مواجهة هجوم "الشيطان الأكبر". بالطبع ستجد نفسك أمام قضية مصطنعة من قضايا الكفر والإيمان، لماذا؟ لأن القطيع من الناس يريدون هذا التصنيف الأحادي دون أدنى وعي أو فهم حقيقي للأبعاد المختلفة للقضية، وينطبق هذا الأمر المؤسف على المريدين المتعصبين والرافضين المتحاملين على حد سواء.
الأمعات تنتشر في الماء والهواء كالطحالب الضارة.
من أبرز درجات النفاق الاجتماعي التي تستشري في مجتمعاتنا:
الانتشار المرعب لكثرة البرامج الدينية على الفضائيات، والتي تتناول في معظمها أسئلة سطحية ومكررة من الناس تدور حول قضايا الجنس وفقط، وكأن جوهر الإسلام العظيم قد انحصر – زورًا وبهتانًا – في هذه الزاوية الضيقة.
وتتجلى الكارثة الحقيقية في طبيعة هذه الأسئلة التي تبحث عن فتوى تبرر كل أشكال الانحلال الأخلاقي والسلوكي، المهم في نهاية المطاف أن نظهر للعالم أننا شعب متدين بطبعه وفطرته، مع أن الحقيقة المرة التي نخفيها عن أنفسنا هي أننا نعيش في مستنقع من القمامة الأخلاقية لا يوجد له مثيل في أي مكان آخر من هذا العالم الفسيح.
من أبرز درجات النفاق الاجتماعي التي تشغل حديث الساعة:
الحديث الدائر الآن حول غلاء الأسعار المتصاعد، مع إظهار مسحة اشتراكية زائفة والخوف المصطنع على أحوال المساكين والفقراء المعدمين.
ثم نرى في المقابل رواجًا واستهلاكًا مفرطًا في كل شيء وأي شيء، لماذا هذا التناقض الصارخ؟ لأننا ببساطة نعشق التطرف اللفظي والشعارات الرنانة والسير الأعمى مع القطيع في أي قضية تطرح، لإثبات زائف لأنفسنا وللآخرين أننا أصحاب عقول جبارة نملك إنسانية فياضة تصل لدرجة التضامن اللفظي مع مسلمين افتراضيين على كوكب المريخ، وهو ربما لا يعرف حتى أحوال جاره المسلم الذي يسكن معه في نفس العمارة.
الأمعات تنتشر في الهواء والماء كالغبار الخانق.
من أبرز درجات النفاق الاجتماعي الذي يغلف تعاملاتنا:
التطرف اللفظي الأجوف والزيطة والهيصة المصاحبة حتى لأعقد القضايا وأكثرها حساسية، حتى يظن الناظر أنك أمام وعي حقيقي وفهم عميق، ولكن الحقيقة المرة التي تتكشف مع الوقت هي أن معظم هؤلاء ما هم إلا ببغاوات تردد أقوالًا دون أدنى وعي أو فهم حقيقي لمعانيها وأبعادها، والكل يستميت في محاولة إثبات زائفة أن الله سبحانه وتعالى يقف بالضرورة مع المسلمين، حتى لو كانوا هؤلاء المسلمون في أقصى درجات الانحدار الأخلاقي والسلوكي.
من أبرز درجات النفاق الاجتماعي الذي يكسو سلوكياتنا:
ادعاء التقوى والورع في كل شيء لفظًا وكلامًا معسولًا فقط، بينما لا يوجد أي أثر حقيقي لهذه الادعاءات في السلوك العملي والأفعال اليومية.
خذ مثالًا حيًا على ذلك: موسم ذبح الأضاحي، سترى فيه كل العجب العجاب الذي لا صلة له بالروح الحقيقية للشعيرة الدينية السامية، بل يمكن أن يصل الأمر في بعض الأحيان إلى درجة الكفر العملي عن طريق السرقة والاحتيال والسباب والخصام، وطبعًا مع تجاهل تام لأبسط قواعد النظافة العامة.
تحليل أعمق:
يرجع اللجوء إلى النفاق الاجتماعي في كثير من الأحيان إلى دوافع نفسية واجتماعية معقدة، مثل الخوف من الرفض أو العزلة، والرغبة في الحصول على القبول والتقدير من الآخرين، والسعي لتحقيق مصالح شخصية ضيقة على حساب القيم والمبادئ. كما أن ضعف الثقة بالنفس والانسياق وراء تأثير الجماعة قد يدفع الأفراد إلى تبني آراء وسلوكيات منافقة لآرائهم الحقيقية.
دعوة إلى التغيير:
لمواجهة هذه الآفة الخطيرة، لا بد من تعزيز قيم الصدق والشفافية والأصالة في مجتمعاتنا، وتنمية مهارات التفكير النقدي لدى الأفراد لتحصينهم ضد الانسياق الأعمى والتقليد الأجوف. كما يجب على المؤسسات الدينية والتعليمية والإعلامية أن تلعب دورًا فعالًا في التوعية بمخاطر النفاق الاجتماعي وضرورة التمسك بالقيم الأخلاقية الحقيقية.