التصور الذهنى القاتل الصامت ساحة الوعى - الجزء الحادى عشر

التصور الذهنى
القاتل الصامت
ساحة الوعى - الجزء الحادى عشر
======================

ماهية التصور الذهني: قيود على الفهم وحواجز أمام التواصل

يُعدّ التصور العقلي وظيفة معرفية أساسية للكائن الحي، ويلعب دورًا محوريًا في تطوير المهارات الحركية والأداء. فهو يُعتبر جوهر عملية التفكير الناجحة، ويمثل انعكاسًا للأشياء والمظاهر التي سبق للفرد إدراكها واكتساب الخبرة بشأنها. وبغض النظر عن شكله، فإن التصور يستلزم أولًا التعلم واكتساب الخبرات، ليتم بعد ذلك استحضار تلك الخبرات وإعادتها أو التعرف عليها أو أدائها.

تعريف التصور من منظور العلماء: أوجه متعددة لفهم الصورة الذهنية

قدم العديد من العلماء تعريفات للتصور الذهني، مما يبرز أهميته وتعقيده:

  • تعريف رودك: يُعرف التصور بأنه الصورة المحفوظة في وعي الإنسان للأشياء والظواهر البيئية وخصائصها التي سبق له إدراكها. إنه بمثابة أرشيف ذهني مرئي أو سمعي أو حسي.
  • تعريف أحمد عزت راجح: يرى أن الإدراك الحسي هو تفطّن الفرد للأشياء الحاضرة المؤثرة في حواسه، بينما التصور هو استحضار هذه الأشياء في الذهن على شكل صور في غياب المنبهات الحسية. تخيل تذكرك لرائحة قهوة أو صوت موج البحر.

التخيل: ملكة تشكيل الصور وعوالم الاحتمالات

يمكن تعريف التخيل بأنه ملكة تشكيل الصور الذهنية، وهو يتجاوز حدود الواقع المحسوس. وينقسم إلى نوعين رئيسيين:

  • التخيل المبدع: وهو القدرة على تكوين صور جديدة لم تكن موجودة من قبل، وقد لا يكون لها وجود في الواقع. مثل تصور فنان لمنظر طبيعي مستقبلي أو تخيل كاتب لعوالم فانتازية.
  • التخيل التمثيلي: وهو استحضار وتمثل موضوعات في حالة غيابها. كتخيلك لشكل صديقك أثناء حديثك معه عبر الهاتف.

يتميز التخيل بكونه لا يتقيد بحدود العالم الخارجي، ويتجاوز قيود الزمان والمكان في نطاق العقل. كما أنه يمثل نافذة إلى عالمنا الداخلي الغني، حيث يبدع الخيال حقائقه الخاصة. إضافة إلى ذلك، يُعدّ التخيل أداة تعليمية قيمة ومهارة تفكيرية هامة، تستخدم في حل المشكلات والتخطيط للمستقبل.

التصور والتخيل: حدود الواقع وآفاق الذهن

التصور: هو استحضار صورة موجودة سلفًا في العقل والذاكرة، وغالبًا ما تكون مطابقة للصورة الحقيقية في الواقع. فكلمة "تصور" مشتقة من "تصوير"، الذي يعني إنشاء صورة طبق الأصل للواقع، كما في "تصوير فوتوغرافي لمنزل" الذي يعكس شكله الحقيقي. تذكرك لشكل سيارتك هو تصور.

التخيل: مشتق من "تخيّل"، ويشير غالبًا إلى شيء غير ممكن الحدوث أو غير واقعي في بعض الأحيان. كتخيلك لطيرانك بجناحين أو وجود مخلوقات فضائية ودودة تزور الأرض.

التصور أقرب إلى الواقع، حيث يستحضر الإنسان صورة لشيء سبق له رؤيته وتكوين انطباع عنه في ذاكرته. لذا، فالتصور يستند إلى خبرات سابقة. بينما التخيل قد لا يكون له أساس في الواقع الملموس. علاوة على ذلك، يتميز التصور بأنه قد يكون عابرًا وغير ثابت ("تخيل لا يثبت على حال")، وإذا ثبت على حال فقد لا يُعتبر تخيلاً بالمعنى الدقيق. وقيل أيضًا أن التخيل هو تصور الشيء على بعض أوصافه دون البعض الآخر، مما يجعله غير مكتمل التحقق.

المبادئ: بوصلة السلوك الإنساني الثابتة

المبادئ هي إرشادات أساسية للسلوك الإنساني، تتميز بقيمتها الثابتة والدائمة وكونها بديهية وغير قابلة للنقاش. لفهم طبيعتها الثابتة، يمكن التفكير في مدى سخافة بناء حياة فعالة على عكس هذه المبادئ، مثل الظلم أو الخداع. فبالرغم من اختلاف الناس في تفسير هذه المبادئ وكيفية تطبيقها، هناك إدراك عام بوجودها وأهميتها. فالصدق والأمانة والعدل هي مبادئ عالمية تقود السلوك الإيجابي.

كلما كانت تصوراتنا الذهنية أقرب إلى هذه المبادئ أو قوانين الطبيعة، ازدادت دقتها وفعاليتها. وتأثير هذه "الخرائط" الذهنية الصحيحة على شخصيتنا وعلاقاتنا أقوى من أي محاولة لتغيير توجهاتنا وسلوكياتنا بشكل سطحي. فتصورك للتعاون على أنه مفتاح النجاح سيقود سلوكك نحو بناء فرق عمل قوية.

الإدراك: نافذة العقل على العالم

الإدراك هو تمثل حقيقة الشيء عند المدرِك، وهو كمال يحصل في النفس وينتج عنه فهم أعمق للشيء المعلوم عن طريق العقل أو الخبر. هذا الكمال الإضافي للحواس هو ما يُسمى إدراكًا. ولا يحدث الإدراك بخروج شيء مادي من الحواس إلى الشيء المدرَك، ولا بانطباع صورة مادية فيه، بل هو معنى يخلقه الله تعالى في النفس المدركة، أي "معنى قائم بالعالم". فعندما ترى شجرة، فإن إدراكك لها يتجاوز مجرد استقبال الضوء المنعكس عنها ليشمل فهمك لماهيتها وخصائصها.

بعد هذا التوضيح للفروق بين التصور الذهني والتخيل والمبادئ والإدراك، ننتقل إلى صلب موضوعنا:

التصور الذهني: سيف ذو حدين يقيد الفهم ويشوه العلاقات

التصور الذهني السلبي: أحكام مسبقة تعيق التواصل هو التعامل مع الآخرين بناءً على أحكام مسبقة ونمطية وثابتة لا تقبل التغيير. مثال على ذلك: الربط التلقائي بين مظهر الشخص (مثل اللحية أو نوع الملابس) وبين صفات معينة (مثل التقوى أو الانحلال). أو تصور أن كل المنتمين إلى خلفية اجتماعية معينة يتصفون بصفات محددة. هذه التصورات تختزل الأفراد في قوالب جامدة وتعيق فهمنا الحقيقي لهم.

من يزرع التصورات الذهنية بداخلنا؟ حقول التأثير التي تشكل أفكارنا

تتعدد مصادر تكوين التصورات الذهنية، ومن أبرزها:

  • الإعلام: قوة التشكيل غير المباشر: بمختلف أنواعه (مرئي، مسموع، مقروء) غالبًا ما يقدم صورًا نمطية قد ترسخ تصورات معينة عن مجموعات أو قضايا. فصورة البطل النمطي في الأفلام أو طريقة تقديم فئة معينة في الأخبار يمكن أن تشكل تصوراتنا دون وعي منا.
  • الفنون: مرآة المجتمع وناقلة قيمه (وتحيزاته أحيانًا): السينما، التلفزيون، الأدب، وغيرها، يمكن أن تساهم في تشكيل تصوراتنا عن فئات معينة من الناس أو جوانب الحياة من خلال القصص والشخصيات التي تقدمها.
  • المؤسسات الدينية: سلطة التفسير والتوجيه: قد تساهم التفسيرات والخطابات الدينية في تكوين تصورات معينة حول المعتقدات والسلوكيات، والتي قد تتحول أحيانًا إلى أحكام نمطية.
  • الأسرة والعرف والتقاليد: إرث الأفكار المتوارثة: تلعب التنشئة الاجتماعية والمعايير المجتمعية دورًا كبيرًا في نقل وتكوين التصورات الذهنية منذ الطفولة. فالأفكار التي نشأنا عليها في الأسرة والمجتمع غالبًا ما تصبح جزءًا من تصوراتنا عن العالم.

كيف نتخلص من التصورات الذهنية الخاطئة؟ رحلة نحو التحرر الفكري

تتطلب عملية نسف التصورات الذهنية الخاطئة يقظة فكرية وجهدًا واعًا ومستمرًا. لا يمكن تحقيق التحرر من هذه القيود الذهنية بين عشية وضحاها، بل هي رحلة استكشاف وتفكيك للمعتقدات الراسخة. يمكن أن يقود هذه العملية:

  • تنمية الوعي النقدي: سلاح العقل ضد الأحكام المسبقة: الوعي النقدي هو القدرة على التفكير بعمق وتجاوز التلقين السطحي. إنه يعني فحص المعلومات بدقة، وتحليل الحجج، وتحديد الافتراضات الخفية، وعدم قبول الأفكار ببساطة لأنها شائعة أو مقدَّمة من مصدر موثوق. على سبيل المثال، عندما نرى إحصائية تربط بين فئة معينة والجريمة، لا نكتفي بقبولها بل نسأل عن المنهجية، والعوامل الأخرى المؤثرة، وهل هناك تحيزات محتملة في جمع البيانات وتحليلها.

  • ساحات الوعي: فضاءات الحوار والتفكير المشترك: يمكن اعتبار "ساحات الوعي" بمثابة الفضاءات التي يتم فيها تبادل الأفكار بحرية ونقد البنى المعرفية السائدة. قد تتخذ هذه الساحات أشكالًا متنوعة، مثل المنتديات الفكرية، والمجموعات النقاشية عبر الإنترنت التي تشجع على الحوار المحترم والمبني على الأدلة، والمبادرات التعليمية المستقلة التي تركز على تطوير مهارات التفكير النقدي. في هذه الساحات، يتم تشجيع التفكير الجماعي وتفكيك المسلمات، مما يساهم في زعزعة التصورات الذهنية الخاطئة وفتح آفاق جديدة للفهم. على سبيل المثال، يمكن لمجموعة من الأفراد من خلفيات مختلفة أن يجتمعوا لمناقشة قضية سياسية معينة، والاستماع إلى وجهات نظر متباينة وتحليلها بعقل مفتوح.

  • النخب المستنيرة: قادة التغيير نحو التفكير المستقل: لا يقتصر دور "النخب المستنيرة" على المثقفين والأكاديميين فحسب، بل يشمل كل فرد يمتلك القدرة على التفكير النقدي ويسعى لنشر الوعي بأهمية التحرر من الأفكار النمطية. هؤلاء الأفراد يتميزون بقدرتهم على رؤية الأمور من زوايا مختلفة، وتحدي الأفكار السائدة، وتقديم رؤى جديدة. إنهم يلعبون دور المحفز للتغيير الفكري في مجتمعاتهم، من خلال الكتابة التي تتحدى الصور النمطية، والمناقشات العامة التي تشجع على التفكير العميق، والمبادرات التعليمية التي تهدف إلى تمكين الأفراد من التفكير بشكل مستقل.

الهدف الأساسي من نسف التصورات الخاطئة: بناء جسور التفاهم والتعايش

  • تحقيق القبول الحقيقي للآخر: تجاوز الاختلاف الظاهري نحو الإنسانية المشتركة: القبول الحقيقي يعني رؤية الإنسانية المشتركة التي تجمعنا بغض النظر عن الاختلافات السطحية في العقائد أو الآراء السياسية أو الخلفيات الاجتماعية. إنه يتطلب منا تجاوز الأحكام المسبقة والتعرف على قيمة كل فرد كإنسان فريد. على سبيل المثال، بدلًا من تصنيف شخص بناءً على انتمائه الديني، نسعى لفهم قيمه ومعتقداته من منظوره الخاص.

  • التعامل الإنساني: رؤية الإنسان خلف التصنيف والتعاطف مع تجربته: يعني التعامل مع الآخرين بندية واحترام، والنظر إليهم كأفراد لهم مشاعرهم وآمالهم وتجاربهم الخاصة، بدلًا من اختزالهم في مجرد فئة أو تصنيف معين. إنه يتطلب منا التعاطف والاستماع الفعال لمحاولة فهم وجهة نظرهم، وتجنب البحث عن سلبيات لتأكيد تصوراتنا المسبقة. على سبيل المثال، عندما نتعامل مع لاجئ، نحاول فهم الظروف الصعبة التي مر بها بدلًا من الحكم عليه بناءً على صور نمطية سلبية.

خطوات عملية لنسف التصورات الذهنية ذاتيًا: أدوات التغيير الفكري

  • تحدي المسلمات الفكرية: فحص الأسس والمعتقدات بعين ناقدة: لا تقبل أي فكرة ببساطة لأنك ورثتها أو لأنها شائعة. اسأل: لماذا أؤمن بهذا؟ ما هي الأدلة التي تدعم هذا الاعتقاد؟ هل هناك وجهات نظر أخرى؟ على سبيل المثال، إذا كنت تحمل تصورًا سلبيًا عن دور المرأة في المجتمع، حاول أن تبحث عن أمثلة ونماذج ناجحة لنساء في مختلف المجالات وتحدى تصورك المسبق.

  • التخلص من الأفكار الجاهزة: رفض القوالب الفكرية وتبني المرونة الذهنية: تجنب الاعتماد على الأحكام المسبقة والقوالب النمطية في فهم العالم والأشخاص. كن مستعدًا لتغيير رأيك بناءً على معلومات جديدة وتجارب مختلفة. على سبيل المثال، لا تفترض أن كل الشباب غير مسؤول، بل تعامل مع كل فرد بناءً على سلوكه وأفعاله.

  • طرح الأسئلة بعقل متفتح: استكشاف المجهول الفكري بشجاعة: لا تخف من طرح أسئلة قد تبدو غريبة أو غير تقليدية. البحث عن إجابات بنفسك واختبار صحتها هو طريقك نحو التفكير المستقل. على سبيل المثال، بدلًا من قبول تفسير جاهز لقضية تاريخية مثيرة للجدل، ابحث عن مصادر أولية وحاول تكوين رأيك الخاص بناءً على الأدلة.

  • إدراك تعدد وجهات النظر: توسيع آفاق الفهم من خلال التعاطف: فهم أن الحقيقة ليست دائمًا واحدة، وأن لكل شخص طريقته في رؤية العالم وتفسيره بناءً على خلفيته وتجاربه. حاول أن تضع نفسك مكان الآخرين لفهم دوافعهم ومنظورهم. على سبيل المثال، عند الاختلاف مع شخص ينتمي إلى ثقافة مختلفة حول مفهوم معين، حاول أن تفهم كيف ينظر إليه من خلال عدسة ثقافته.

  • تبني التفكير المركب: تحليل متعدد الأبعاد للقضايا المعقدة: لا تكتفِ بالنظر إلى الأمور من زاوية واحدة. حاول تحليل القضايا المعقدة من جوانب مختلفة (اقتصادية، اجتماعية، سياسية، ثقافية، تاريخية) وفهم العلاقات المتداخلة بينها. على سبيل المثال، عند دراسة قضية الهجرة، خذ في الاعتبار الأسباب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تدفع الناس إلى الهجرة وتأثيرها على المجتمعات المستقبلة والمرسلة.

  • التحرر من فكرة "الحقيقة المطلقة": تبني التواضع الفكري والبحث المستمر: كن متواضعًا فكريًا واعترف بأن معرفتنا محدودة وأن الحقائق قد تتغير بمرور الوقت واكتشاف معلومات جديدة. كن مستعدًا لمراجعة معتقداتك وتعديلها عند الضرورة. فالإصرار على رأي قديم بالرغم من ظهور أدلة جديدة هو قيد على النمو الفكري.

الخاتمة: نحو عالم أكثر فهمًا وتسامحًا

إن نسف التصورات الذهنية الخاطئة ليس مجرد عملية فكرية، بل هو ضرورة حتمية لبناء مجتمعات أكثر تماسكًا وتسامحًا. من خلال تحدي أحكامنا المسبقة وتبني التفكير النقدي والتعاطف مع الآخر، نفتح الباب أمام فهم أعمق لأنفسنا وللعالم من حولنا. إن التحرر من قيود التصورات الذهنية يمكّننا من رؤية الآخر كإنسان بكل ما يحمله من تعقيد وثراء، ويقودنا نحو تفاعلات أكثر إيجابية وبناءة، مما يثري حياتنا وحياة من حولنا.


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.