"عشت سنين": رحلة اعتراف متأخر في متاهات المشاعر الإنسانية

"عشت سنين":
 رحلة اعتراف متأخر في متاهات المشاعر الإنسانية
=============


تأخذنا أغنية "عشت سنين" للفنانة القديرة أنغام في رحلة شعورية معقدة، تستكشف أعماق العلاقات الإنسانية وتناقضات المشاعر التي قد تتأخر في الظهور والاعتراف بها. يمثل هذا العمل الفني، الذي جمع بين حساسية كلمات الشاعر بهاء الدين محمد وعبقرية ألحان الموسيقار الراحل عمار الشريعي، وقدرة أنغام الصوتية الفريدة على التعبير، علامة فارقة في مسيرة الأغنية العربية الحديثة.

تنطلق الأغنية من اعتراف صادم ومثير للتساؤل: "عشت سنين معاك وقلبي مش معاك لكن مخلصالك". هذه البداية تكشف عن حالة من الانفصال الروحي رغم القرب الجسدي أو الالتزام الشكلي بالعلاقة. إنها تعكس واقعًا قد يعيشه الكثيرون، حيث تستمر العشرة أو المسؤولية دون أن يصاحبها بالضرورة ارتباط عاطفي عميق. هذا التناقض يزرع بذور الفضول لدى المستمع ويدعوه للتفكير في الأسباب التي أدت إلى هذا الوضع وإمكانية تغييره.

مع تطور الأحداث، يأتي لحظة الاعتراف المتأخر بالحب كذروة عاطفية: "دلوقتي بقولك أيوه بحبك". هذا الاعتراف ليس مجرد إعلان عن مشاعر جديدة، بل هو بمثابة صحوة للروح وإدراك لقيمة الشخص الآخر بعد سنوات قد تكون ضائعة في البحث عن مشاعر زائفة أو في تجاهل ما كان حاضرًا وقيمًا. هذه الفكرة تلامس قلوب الكثيرين ممن اكتشفوا حبًا متأخرًا أو ندموا على عدم تقدير مشاعر شخص ما في الوقت المناسب.

تبرز الأغنية بوضوح رحلة تطور الإدراك لدى المتحدث. فبعد سنوات من عدم الشعور بالحب الرومانسي، يصل إلى قناعة عميقة بقيمة هذا الشخص: "ما لاقيتش في الدنيا دي قلب زي قلبك". هذا الاعتراف يأتي مصحوبًا بندم صادق على الانشغال بأوهام أو أحلام بعيدة: "لومت نفسي علشان فضلت أحلم بغيرك". هنا تتجلى حكمة الأغنية في تسليط الضوء على أهمية الالتفات إلى الحاضر وتقدير الأشخاص الذين يحيطون بنا بصدق وإخلاص.

تضيف عبارة "واللي أغرب" بعدًا آخر للعلاقة، حيث تلمح إلى وجود تواصل خفي وفهم متبادل غير معلن: "كنت حاسس بيا لكن مش قايلي". هذه الإشارة إلى لغة صامتة أو إشارات غير مباشرة كانت موجودة بين الطرفين تثير التساؤل حول أسباب هذا الصمت والتأخر في البوح بالمشاعر الحقيقية.

أما جملة "حاجات كتير مش هنساها لك"، فهي تحمل في طياتها امتنانًا عميقًا وتقديرًا لأفعال أو صفات معينة تركت أثرًا دائمًا في نفس المتحدث. قد تشير هذه "الحاجات الكتير" إلى صبر جميل، دعم غير مشروط، أو ربما إلى جوهر الشخصية النبيلة التي تستحق هذا الاعتراف المتأخر.

على المستوى اللحني، يقدم الموسيقار عمار الشريعي تحفة فنية تتناغم بشكل مثالي مع عمق الكلمات. يتميز الاستهلال الموسيقي للأغنية بفرادته وجاذبيته، حيث يهيئ المستمع لدخول عالم الأغنية وإحساسها الخاص. ومع تطور الكلمات، يتصاعد اللحن تدريجيًا ليعكس التحول في المشاعر، من الهدوء والتردد في البداية إلى الدفء والاعتراف الصريح بالحب في النهاية.

أما أداء أنغام الصوتي، فيعتبر قمة في التعبير والإحساس. بقدرتها الفريدة على تلوين صوتها، تنقل أنغام ببراعة مختلف المشاعر التي تتضمنها الأغنية، من الندم والحيرة إلى الحب والتقدير. يستطيع المستمع أن يشعر بصدق الاعتراف وعمقه من خلال نبرة صوتها وأدائها المتقن.

في جوهرها، يمكن قراءة أغنية "عشت سنين" كرسالة قوية عن أهمية الصدق مع الذات ومع الآخرين في العلاقات الإنسانية. إنها دعوة للتأمل في المشاعر الحقيقية وعدم الانشغال بالمظاهر أو الأوهام التي قد تحجب عنا رؤية الجمال الحقيقي فيمن هم حولنا. كما تسلط الأغنية الضوء على فكرة أن الحب والتقدير قد يتأخران في الظهور، ولكنهما يظلان قيمتين إنسانيتين ضروريتين.

تمثل "عشت سنين" عملًا فنيًا متكاملًا يجسد قوة الكلمة، جمال اللحن، وصدق الأداء، ليقدم لنا تأملًا عميقًا في طبيعة العلاقات الإنسانية وتطور المشاعر عبر الزمن. إنها أغنية تبقى في الذاكرة وتلامس القلوب برقتها وعمقها.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.