مقدمة:
يُعد فيلم The Revenant (العائد) تجربة سينمائية فريدة من نوعها، تتجاوز حدود التشويق والإثارة لتغوص في أعماق النفس البشرية وقسوة الطبيعة. فيلم يصعب وصفه بكلمات عابرة، لما يحمله من خصوصية في الزمان والمكان والشخصيات. تدور الأحداث في أمريكا الشمالية قبل أن تتشكل الولايات المتحدة، في خضم صراع مرير بين القوات الأمريكية والفرنسية وحلفائهم من القبائل الهندية (الهنود الحمر). في هذا السياق، نتابع قصة هيو جلاس، الصياد الذي تنقلب حياته رأسًا على عقب بعد مقتل زوجته الهندية وابنه على يد جنود أمريكيين، ليتحول بعدها إلى دليل لنفس الحملة التي أودت بحياته السابقة، دون أن يعلم قادتها بحقيقة ارتباطه بالضحايا.
ملحمة البقاء في وجه الطبيعة والانتقام:
في منطقة حدودية شاسعة تغطيها الثلوج والغابات الكثيفة، يتعرض جلاس لهجوم وحشي من دب يتركه بين الحياة والموت. ترى الحملة أنه أصبح عبئًا عليها، وتقرر تركه مع ابنه وجندي وغلام آخر، على وعد بمكافأة الجندي مقابل دفنه بعد الموت. لكن الجندي ينكث بوعده ويقتل ابن جلاس ويحتال على الغلام ويدفن الصياد حيًا. هنا تبدأ رحلة جلاس الملحمية، حيث يصارع الموت المحقق والطبيعة القاسية والقبائل المعادية التي تلاحق الحملة. بعد صراع مرير، يتمكن من النجاة بأعجوبة وتعود به الحملة إلى مقرها. وعندما يعلم بعودة الصياد الذي قتل ابنه، يهرب الجندي سارقًا خزينة الحملة. يقرر قائد الحملة تعقبه برفقة جلاس، لتتصاعد الأحداث بمقتل القائد على يد الجندي، لينتهي المطاف بمواجهة دامية ينتقم فيها جلاس لابنه ويقتل قاتله. تشاهد قبيلة أخرى هذا المشهد، وتقرر تركه بعد أن رأت أنه قد استوفى حقه.
إيجابيات الفيلم: شهادة على القدرات الفنية الرفيعة:
- الأداء التمثيلي الخارق ليوناردو دي كابريو: يُعد أداء ليوناردو دي كابريو في دور هيو جلاس قمة في الإتقان والتجسيد. لقد تخلى تمامًا عن صورته كنجم وسيم ليقدم شخصية رجل مُنهك ومصاب بعاهات جسدية ونفسية متعددة. من بحة صوته التي تعكس إصابته في الرقبة، إلى حركته البطيئة والمتعبة الناتجة عن إصابة قدميه، مرورًا بنظراته المعبرة عن الألم والإصرار، استطاع دي كابريو أن يحمل الفيلم على كتفيه، ليقدم أداءً يُحسب له كممثل عظيم وليس مجرد نجم سينمائي. لقد كانت كل حركة وتعبير على وجهه يروي قصة معاناة وبقاء.
- التصوير السينمائي المذهل: يتميز الفيلم بتصوير سينمائي استثنائي بقيادة إيمانويل لوبزكي. اللقطات البانورامية العريضة للطبيعة الخلابة والقاسية في آن واحد تأسر الألباب وتنقل للمشاهد إحساسًا بضخامة المكان وعزلته. كما أن استخدام الإضاءة الطبيعية يضفي على المشاهد واقعية وجمالية فريدة. لقد نجح التصوير في أن يكون جزءًا لا يتجزأ من قصة الفيلم، معبرًا عن جمال الطبيعة التي يدمرها الإنسان باسم الحضارة، كما يتردد على لسان قائد الحملة بعبارته الصادمة: "ندخل الحضارة بإطلاق الرصاص على هؤلاء الملاعين" (يقصد الهنود الحمر).
- تصميم الملابس والماكياج الواقعي: بذل فريق تصميم الملابس والماكياج جهدًا كبيرًا في خلق مظهر واقعي للشخصيات، خاصة هيو جلاس. الإصابات التي لحقت به نتيجة هجوم الدب بدت حقيقية ومؤثرة، مما عزز من إحساس المشاهد بمعاناته. يمكن القول إن عملهم وصل إلى درجة الإبداع في تصوير تفاصيل تلك الحقبة الزمنية الصعبة.
- المعالجة الفكرية لمفهوم الإله والإيمان: يطرح الفيلم تساؤلات عميقة حول الإيمان والقضاء والقدر بطريقة غير مباشرة. صراع جلاس من أجل البقاء يمكن تفسيره على أنه اختبار لإيمانه أو استسلامه لقدره. هذه الأفكار تترك للمشاهد مساحة للتفكير والتأمل.
- الإخراج المتواري والمبدع لأليخاندرو غونزاليز إيناريتو: بعد فوزه بالأوسكار عن فيلم "الرجل الطائر"، يثبت إيناريتو في هذا الفيلم قدرته على الإخراج بأسلوب يخدم القصة والرؤية البصرية. لقد توارى خلف الكاميرا ليترك التكوين البصري للصورة يتحدث، معتمدًا على لقطات طويلة تمنح المشاهد فرصة للانغماس في عالم الفيلم وتفاصيله.
سلبيات الفيلم: بعض الثغرات في السرد:
- غياب الخلفية الدرامية لزواج البطل: يفتتح الفيلم بمشهد مقتل زوجة الصياد دون تقديم أي معلومات عن كيفية زواج رجل أبيض من امرأة هندية وكيف تعلم لغتهم. هذا النقص في المعلومات يترك بعض التساؤلات لدى المشاهد ويقلل من فهم العلاقة الأبوية بين جلاس وابنه.
- التساؤل حول دوافع البطل المتناقضة: يثير تساؤلًا منطقيًا حول قبول جلاس العمل كدليل لنفس الحملة التي قتلت زوجته، حتى لو كان دافعه الأساسي هو الانتقام من القاتل المباشر. لم يوضح السيناريو بشكل كافٍ أسباب هذا القرار.
- سطحية أسباب الصراع: لم يقدم الفيلم تحليلًا معمقًا لأسباب الصراع بين الأمريكيين والهنود، خاصة في ظل اتساع الأرض ووفرة الموارد، مما يجعل دوافع العنف تبدو مبسطة بعض الشيء.
الرؤية البصرية الغامرة:
يبقى فيلم The Revenant على المستوى البصري تحفة فنية ممتعة، بفضل اعتماد المخرج على اللقطات الطويلة التي تبرز إمكانيات جميع العاملين أمام وخلف الكاميرا. هذه اللقطات تساهم في خلق تجربة مشاهدة غامرة وواقعية، تجعل المشاهد يشعر وكأنه جزء من هذا العالم القاسي والجميل في آن واحد. يمكن تفسير الفيلم أيضًا على أنه محاولة للاعتذار للطبيعة الأم التي تم تدميرها باسم الحضارة الإنسانية.