الصدمة - ارتجاج في المخ

الصدمة 

ارتجاج في المخ

=========

في قلب "البوتقة الأمريكية" التي وعدت بالانصهار، يكشف فيلم "ارتجاج" عن صراع مرير بين العلم والحقيقة، وعن التكلفة الخفية للشغف بالرياضة. إنه عمل فني مُبدع يُوضح ماهية الولايات المتحدة الأمريكية، حيث صاغ سيناريست مُخلص لفن السيناريو فكرة باهرة، مركّزًا عليها دون الدخول في قضايا فرعية كانت لتُخفت أنوار رسالته الأساسية.

الفكرة ببساطة تدور حول مواطن أمريكي من أصل نيجيري. من خلال أول مشاهد الفيلم، نعرف أنه باحث علمي حقيقي، وأن عمله كدكتور تشريح في الطب الشرعي يتميز بأسلوبه الفريد في تشريح الجثث لمعرفة أسباب الوفاة، لذا يُطلق على نفسه لقب "طبيب الموتى". هذا الطبيب الباحث، النيجيري الأصل الذي لم تلوثه المصالح المتجذرة للمؤسسات الأمريكية، لاحظ أثناء تشريحه لجثة أفضل لاعب كرة قدم أمريكية سابق، أن التاريخ الطبي للاعب، من خلال الأوراق، يُشير إلى أنه كان بصحة جيدة جدًا. يبدأ الدكتور في بحثه عن أسباب الوفاة، سواء بأخذ شرائح من المخ وفحصها، أو من خلال مشاهدة بعض مباريات اللاعب. يخرج بنتيجة باهرة: الصدمات المتكررة التي تلقاها الرجل أثناء المباريات أحدثت تلفيات دقيقة في المخ لا تظهر في الأشعة العادية، مما أدى إلى الوفاة. فاللاعب يتلقى في المتوسط سبعين ألف ضربة خلال عمره في الملاعب، سواء في التدريب أو المباريات ذاتها.

عندما عرض تلك النتائج على أحد العلماء، وافق على ما توصل إليه، وبالفعل نُشر البحث في إحدى الدوريات العلمية الرفيعة. وهنا، يبدأ الصراع الحقيقي الذي هزّ أركان الرياضة الأمريكية: بين العلم الذي كشف الحقيقة والمؤسسة الكبرى للاتحاد الوطني لكرة القدم الأمريكية (NFL)، الذي يُعتبر "رقم 2 في حياة الأمريكيين بعد الرب رقم 1"، كما ذُكر في الفيلم. توالت حوادث وفاة نجوم كرة القدم الأمريكية السابقين، وأجرى الطبيب ذات البحث عليهم، فخرج بذات النتيجة.

هنا، قام الاتحاد الوطني لكرة القدم الأمريكية بمحاربة الطبيب الباحث بكل الوسائل الممكنة، حتى اضطر للانسحاب ومغادرة المدينة بأكملها. ولكن بعد ثلاث سنوات، ينتحر أحد اللاعبين برصاصة في القلب، تاركًا رأسه للبحث. وهنا، يتضامن اللاعبون الحاليون مع الطبيب ليعود إلى الساحة مرة أخرى.


طبقات عميقة: قضايا فرعية بعمق استثنائي

تلك هي بؤرة الضوء الحقيقية في الفيلم. لقد كان جميع صُنّاع الفيلم، سواء أمام الكاميرا (الممثلون) أو من خلفها (المخرج والكاتب)، مُلهمين ومُخلصين جدًا للفكرة. وقد لامسوا قضايا فرعية هامة جدًا دون التوقف عندها كثيرًا، مما حافظ على تركيز السرد:

  • صراع الهوية والعنصرية: حيث رفض الدكتور الباحث التحدث مع مندوب الاتحاد الوطني لكرة القدم الأمريكية كونه مهاجرًا نيجيريًا أسود، فكيف يتفوق على "الرجل الأبيض"؟

  • سلطة المؤسسات ووجهها المزدوج: كيف أن المؤسسات الكبرى، بعد أن تمتص دماء البشر تحت دعاوى الجمال والإبهار، تقوم ببعض أعمال الخير كالتبرع للجمعيات، كنوع من "الطلاء" لوجهها القبيح. هذه المؤسسات أصبحت البديل الحقيقي للإشباع الروحي، محتلة مكان الدين الممثل في الكنيسة.

  • المخدرات اللغوية و تزييف المفاهيم: كيف أن مفاهيم نبيلة مثل "الحرية" و"حقوق الإنسان" والإرادة الحرة تتحول إلى "مخدرات لغوية". هذه المفاهيم تُستخدم لتغطية ممارسات سلبية؛ فمثلًا، قد يُستخدم مصطلح "الديمقراطية" لتبرير التدخل العسكري الخارجي بينما الهدف الحقيقي هو السيطرة على الموارد، أو يُرفع شعار "حقوق الإنسان" في قضية معينة مع غض الطرف عن انتهاكات مماثلة في قضايا أخرى تخدم مصالح القوى المهيمنة.

  • دور الإعلام: هل هو مرآة للحقيقة، أم أنه مجرد ذراع من أذرع المؤسسة الكبرى؟

  • الرأسمالية المتوحشة: آلة ضخمة لجني الأموال، والمستفيدون منها هم أصحاب "الياقات البيضاء" من كافة التخصصات، دون النظر إلى أي إنسانية ضائعة أو ممسوخة.

  • قتل البحث العلمي: وكيفية قتله في مهده تحت دعاوى مختلفة، عندما يتعارض مع المصالح القوية.


ابتكار في الفكرة والسرد: ويل سميث كقوة صامتة

الفيلم جديد في الفكرة، وجديد في التناول والسرد السينمائي، حيث لم نرَ إلا الهدوء الراسخ الواثق من الجميع، مع التشويق الرائع جريًا وراء الأحداث. لم يحاول صُنّاع الفيلم فعل أي شيء غير عادي لإظهار مهاراتهم الفنية؛ على العكس، كان الإبهار الحقيقي في الفكرة ذاتها. وخاصة أداء النجم ويل سميث، الذي أدى دوره باقتناع باهر جدًا يُحسب له، بانفعالاته الداخلية المعبرة من خلال الصمت وتعبيرات الوجه والعيون.

ملحوظة علمية هامة أشار إليها الفيلم: المخ عند الحيوانات والطيور لديه ما يسمى "بحزام الأمان" لصد الصدمات التي تتلقاها في صراعها مع الطبيعة أو مع أقرانها أو أعدائها. أما مخ الإنسان، فلا يوجد به هذا "الحزام"، لذا أي صدمة تؤثر على المخ بطريقة أو بأخرى.


صُنّاع الفيلم:

  • المخرج: بيتر لانديسمان

  • الإنتاج: ريدلي سكوت

  • السيناريو: بيتر لانديسمان

  • البطولة: ويل سميث، أليك بالدوين، بول ريزر، لوك ويلسن، ديفيد مورس

فيلم يُحسب لكل من اشترك فيه. إنه ليس مجرد قصة عن كرة القدم، بل هو مرآة تعكس صراعات مجتمعية أعمق: صراع الحقيقة ضد المصلحة، العلم ضد الجشع، والفرد ضد المؤسسة. إنه دعوة لنا جميعًا لنكسر وهم اليقين، ولنتحمل مسؤولية البحث عن الحقيقة، حتى لا نكون نحن الجناة الحقيقيين حين نختار التيه.


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.