الإمّعات وصكوك الغفران: وهم الحقيقة المطلقة

الإمّعات وصكوك الغفران: وهم الحقيقة المطلقة

=================



ريحة الكلام وطعم الحقيقة: دعوة للتواضع الفكري ونبذ التعصب

بعد سنين طوال قضيتها بتنقل بين سطور الكتب في مجالات شتى، من الفلصافة للتاريخ، ومن الأدب للعلوم، وبستمع بإنصات لحكايات البَشر على اختلاف مشاربهم، من المثقفين للعوام، ومن القادة للأفراد العاديين، أقولها بصدق مدوي: الكلام عندي مش مجرد نقوش باهتة على ورق، بل هو كيانات حية بتنبض بالمعنى، ليها طعم يستساغ فيثير الفكر، أو ينفر فيكشف الزيف، ولون يبهج الروح ويثري الخيال، أو يظلم العقل ويضلل البصيرة، وريحة تفوح بصدق تنعش الوجدان، أو تزكم بأنف الكذب فتكشف النوايا الخفية. لما بأقرأ، مش بتعامل مع كتابة بيضاء محايدة، بل بغوص في أعماق النص، بستشعر نبض قلب الكاتب، وخلفيته الفكرية، وحتى انحيازاته الخفية، دي قدرة أنا شايفها منحة عظيمة من رب وهبني ملكة الإحساس والتبصر.

بيزعل الواحد قوي، بل بيثير في النفس غضب مكتوم، لما يشوف حد، ممكن يكون متصدر المنابر أو مؤثر في وسائل الإعلام، بيتخيل إنه مالك الحقيقة المطلقة، ويبدأ يوزع "صكوك" جاهزة على التانيين: صكوك غفران للي يوافقه في الرأي ويسقف له بحرارة، وصكوك وطنية للي ماشي في ركبه وبينفذ أجندته، وصكوك انتماء للي بيردد شعاراته ببلاهة من غير أدنى تفكير نقدي. ويا له من غرور أعمى! يا سيدي، إن النوع ده من الناس غالبًا بيكون إمّعة فاضي، بيدور يائس على دور مصطنع يعوض بيه إخفاقاته في ساحة الحياة الحقيقية. مش هيقدر يصنع لنفسه بطولة كدابة من ورق على حساب عقول التانيين المستنيرة اللي بترفض الانقياد الأعمى. ويمكن نشوف صور معاصرة للصكوك دي بتتجلى بوضوح في الخطابات السياسية والدينية المتطرفة اللي بتسعى بكل الطرق تضيق مساحة الخلاف المشروعة وتهمش أي صوت مخالف، ده غير إنها ممكن توصل لوصمه بالخيانة أو الكفر.

وفي السياق ده، بيتردد في دماغي قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وده دستور نبوي عظيم في التعامل مع التانيين: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً، تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ، إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا». فالإمّعة هو الشخص اللي معندوش رأي ثابت نابع من تفكير مستقل، بل ماشي ورا كل ناعق بضعف متأصل في بصيرته، والاتباع الأعمى ده مش بيعطل النمو الفردي بس، بل بيشل قدرة المجتمع كله على التطور والابتكار الحقيقي. غالبًا السلوك اللاواعي ده بينبع من إحساس مدفون بالضعف وعدم الثقة بالنفس، أو من رغبة مرضية في الانتماء لقطيع بأي تمن، لكنه في الآخر بيؤدي لتجميد العقول وقتل روح المبادرة وإعاقة أي تقدم حقيقي.

إن إدراكنا العميق لحدود معرفتنا البَشرية هي الخطوة الأولى والضرورية نحو التواضع الفكري الحقيقي. وفي رحلتنا المضنية والطويلة عشان ندور على الحقيقة، الشك المنهجي، مش الشك الهدام، بيبقى أداة مهمة قوي، لأنه بيدفعنا باستمرار نسأل ونتحقق قبل ما نسلم تسليم مطلق لأي فكرة أو معتقد، مهما بدا لينا راسخ أو مُسلّم بيه. الحضارات الإنسانية العظيمة اللي ازدهرت وسابت بصمات مش بتتمحي في تاريخ البَشر ما عملتش كده أبدًا بالتمسك بعقائد جامدة أو أيديولوجيات متعصبة، بل كان سر قوتها كامن في انفتاحها الشجاع على السؤال الجاد وتبني الأفكار الجديدة والمبتكرة، حتى لو خالفت الموروث والسائد. وزي ما بيقولوا بحكمة بالغة "كله لله"، يعني العلم والحكمة المطلقة والنهائية صفة للخالق عز وجل وحده، واللي بنملكه إحنا البَشر، مهما بلغ علمنا، إلا قليل وضئيل. عشان كده، لازم نتعالى عن براثن التعصب والانغلاق الفكري، وننطلق كلنا بروح المتعلم النهم اللي بيدور على المعرفة بإنصات عميق وتدبر واعي، بدل ما نتشبث بتعصب بآرائنا وكأنها الحقائق النهائية المقدسة اللي مش بتقبل أي نقاش أو مراجعة.

لازم نتعلم جيل بعد جيل نبص للعالم المعقد بعين الباحث المتجرد من الأهواء المسبقة، مش بعين المتعصب الأعمى اللي شايف كل اللي بيخالفه باطل محض. لازم نسعى بجد واجتهاد نفهم التاني المختلف بدل ما ندينه ونشوه صورته، ولازم نفتح عقولنا وقلوبنا نكتشف جوانب جديدة ومدهشة من الحقيقة ممكن تكون غايبة عن رؤيتنا الضيقة. ولازم نبدأ التغيير ده بنفسنا أولًا، من خلال تطوير مهارات التفكير النقدي العميق، والبحث الدؤوب عن مصادر معلومات متنوعة وموثوقة، والانخراط بوعي ومسؤولية في حوارات محترمة ومفتوحة مع كل اللي بيختلفوا معانا في الرأي أو المعتقد. ساعتها بس، هنقدر نرتقي بفكرنا الفردي ومجتمعاتنا ككل نحو آفاق أرحب وأكثر إنسانية وعدلًا، وهنساهم بفاعلية في بناء مستقبل مشرق يليق بإنسانيتنا المشتركة.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.