الرقص على حافة الهاوية: قراءة في فيلم الاستيقاظ

  • الرقص على حافة الهاوية: قراءة في فيلم الاستيقاظ
  • ==========

    إن تسمع بعيونك أن ترى باذنك فأنت أمام إبداع فائق

    فنحن أمام معزوفة خاصة جدا تعزف من قبل عازفين مهرة جدا وأمام مؤلف يعرف قيمة الموسيقية البصرية اللونية وامام مخرج يعرف ماهى وظيفة المايسترو في إدارة الفرقة والآلات السولو ( البشرية )

    يُعد فيلم "الاستيقاظ" (Awakenings) عملًا سينمائيًا فريدًا يستكشف أعماق التجربة الإنسانية في مواجهة براثن المرض ورجاء الأمل. يتناول الفيلم قصة الدكتور مالكوم ساير، طبيب حديث التخرج يتميز بشغفه العلمي العميق وانطوائيته الاجتماعية الواضحة، والذي ينتقل للعمل في مصحة تعاني من الإهمال، مخصصة للمرضى الذين يعانون من حالة مرضية غامضة شبيهة بالجمود الحركي والتواصلي، والناتجة عن مضاعفات مرض التهاب الدماغ النوامي الذي أصابهم في الماضي البعيد.

    يُقدم الفيلم للمشاهدين عالَمين مختلفين للنظر إلى هذه الحالة الإنسانية المعقدة. من منظور عام، تبدو الأحداث بسيطة ومباشرة: طبيب شاب ومثالي يسعى بكل تفانٍ لإيجاد علاج فعال لمجموعة من المرضى يعانون من الشلل الدماغي وتبعاته، يحقق في مسيرته بعض النجاحات المحدودة ولكنه يواجه أيضًا العديد من الإخفاقات والتحديات. هذا المنظور الأولي يقدم سردًا واضحًا للتحديات الطبية والإنسانية التي تواجه الدكتور ساير في سعيه الدؤوب.

    ولكن عند الاقتراب والتأمل في تفاصيل السرد السينمائي، تتكشف طبقات أعمق من المعنى الإنساني والفلسفي. فاللوحة التي تبدو بسيطة وواضحة من بعيد تتضح تدريجيًا كنسيج معقد ومتشابك من العلاقات الإنسانية الهشة، والصراعات الداخلية العميقة التي يعيشها كل من المرضى والطاقم الطبي. يُظهر الفيلم ببراعة كيف أن الدكتور ساير، الذي اعتاد على الانغماس في عالَم الأبحاث العلمية داخل المختبر، يواجه صدمة حقيقية عند تعامله المباشر مع مرضى يعيشون في صمت وسكون تام، وكأنهم عالَم آخر ينتظر من يكتشفه.

    تتغير ديناميكية الأحداث بشكل ملحوظ عندما يلاحظ الدكتور ساير قدرة إحدى المرضى، ليلى، على القيام بفعل بسيط يتمثل في التقاط نظارتها، وهو ما يمثل نقطة تحول حاسمة في نهجه العلاجي التقليدي. يبدأ الدكتور ساير بتطبيق أساليب العلاج الحركي المبتكرة، محاولًا بجد إخراج هؤلاء المرضى من سباتهم العميق الذي طال أمده، ويستكشف أيضًا التأثير العميق للموسيقى كوسيلة غير تقليدية للتواصل مع عقولهم وربما أرواحهم.

    يأخذ الفيلم منعطفًا دراميًا آخر مع ظهور الدكتور كوهلر واكتشافه واختراعه لدواء L-Dopa، الذي لم يتم تجربته سريريًا على البشر بعد. يقرر الدكتور ساير، مدفوعًا بإيمانه بإمكانية تحقيق اختراق علاجي ورغبته في تخفيف معاناة مرضاه، المخاطرة وتجربته على أحد المرضى، ليونارد لو، بعد الحصول على موافقة والدته المكلومة. هنا، يدخل عنصر بصري ودرامي جديد إلى السرد السينمائي، يمثل الأمل والتغيير.

    يستيقظ ليونارد، الذي أُصيب بالمرض وهو صبي صغير وعاد إلى الوعي كرجل بالغ يجهل الكثير عن مفاهيم الرجولة والحياة الطبيعية التي تغيرت جذريًا خلال فترة سباته الطويلة. يبدأ ليونارد رحلة بطيئة وشاقة في التعلم والتفاعل مع العالم المحيط به، وينشأ لديه شعور عميق بالحب والتعلق تجاه باولا، ابنة إحدى المريضات التي تزور المصحة بانتظام وتجلب معها نورًا وأملًا.

    تتصاعد الأحداث وتأخذ منحىً مؤلمًا عندما يرغب ليونارد، الذي ذاق طعم الاستيقاظ والحرية، في الخروج مع باولا من أسوار المصحة، لكن الإدارة ترفض طلبه بشكل قاطع، مما يؤدي إلى انهياره النفسي والجسدي وظهور تشنجات قوية عليه. بعد صراع داخلي مرير ولحظة ضعف يطلب فيها المساعدة من الدكتور ساير، يحاول ليونارد التماسك واستعادة كرامته ويلتقي بباولا ليخبرها بصعوبة بالغة أنها ستكون آخر مرة يراها. ولكن رد فعل باولا العفوي والمؤثر باحتضانه والرقص معه يؤدي إلى توقف التشنجات بشكل مؤقت، ليقدم لمحة عابرة عن قوة الحب والاتصال الإنساني.

    مع استيقاظ عدد آخر من المرضى بفضل الدواء الجديد، يعودون في النهاية إلى حالتهم الأولى بعد فشل العلاج على المدى الطويل، ليذكرنا الفيلم بهشاشة الأمل وحدود العلم.

    في المقابل، يزداد الدكتور ساير، الذي شهد لحظات الانتصار والانكسار، انطواءً وعزلة. بينما تحاول الممرضة إليانور، التي تكن له مشاعر خفية، لفت انتباهه وإخراجه من قوقعته. في النهاية، وبعد مغادرتها المصحة، يتجاوز الدكتور ساير تردده وانطوائيته ويتبعها، تاركًا معطفه الأبيض الذي يرمز إلى دوره الرسمي خلفه، ويطلب منها المشي معًا بدلًا من ركوب السيارة، وهو ما يمكن تفسيره كتنفيذ متأخر لرغبة ليونارد في عيش الحياة بحرية والانطلاق نحو المجهول.

    يتناول الفيلم فكرتين رئيسيتين تحملان دلالات إنسانية عميقة. الأولى هي تسليط الضوء المؤثر على وضع مرضى الشلل الدماغي وإهمالهم المزمن، حيث يُنظر إليهم في كثير من الأحيان على أنهم مجرد كائنات بيولوجية تحتاج إلى الرعاية الأساسية دون تقدير لإمكاناتهم الداخلية. أما الفكرة الثانية، فهي أعمق وأكثر شمولية، وتتمثل في استكشاف حالة "الاستيقاظ" من السبات الداخلي الذي قد يعيشه الأفراد الأسوياء ظاهريًا بسبب الانطواء، أو الانغماس المفرط في جوانب أخرى من الحياة على حساب السعادة الحقيقية والعلاقات الإنسانية الدافئة.

    يُنفذ الفيلم بسلاسة وإتقان من قبل جميع صناعه، ويقدم أداءً تمثيليًا مقنعًا ومؤثرًا للممثلين، مما يخلق لدى المشاهد انطباعًا عميقًا بواقعية الشخصيات ومعاناتهم. يُجسد روبن ويليامز شخصية الدكتور ساير بهدوء وعمق، معبرًا ببراعة عن تحوله الداخلي التدريجي. بينما يقدم روبرت دي نيرو أداءً استثنائيًا ومؤثرًا لدور ليونارد لو، خاصة في تصويره المذهل للتشنجات وصعوبة النطق، ناقلًا بصدق صراعه الداخلي والجسدي.

    في الختام، يعرض فيلم "الاستيقاظ" بصدق مؤثر معاناة البشر لأسباب قد تبدو غير جوهرية في نهاية المطاف، وتجاهلهم للسعادة الحقيقية المتاحة لهم في أبسط الأشياء، مما يدفعهم أحيانًا إلى نوع من السبات الروحي دون وعي منهم.

    التعليقات
    0 التعليقات

    ليست هناك تعليقات :

    إرسال تعليق

    مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

    يتم التشغيل بواسطة Blogger.