تطور صناعة الجدل في عصر الإعلام الرقمي.

  • تطور صناعة الجدل في عصر الإعلام الرقمي.

=========

حري بنا أن نضع المصطلحات في أوعيتها الصحيحة حتى يتسنى لنا تجذير ثقافة الحوار الجاد على أرضية مشتركة من الفهم الصحيح للكلمات الناقلة للأفكار. وعليه:

معنى الجدل والمراء لغةً واصطلاحًا

معنى الجدل لغةً: الجدل: هو اللدد في الخصومة والقدرة على إظهار الحجة فيها، ويقال: جادله أي خاصمه مجادلة وجدالًا. والجدل أيضًا: مقابلة الحجة بالحجة، والمجادلة: المناظرة والمخاصمة، والجدال في أصله: الخصومة، وسُمي بذلك لما فيه من شدة التمسك بالرأي.

معنى الجدل اصطلاحًا: الجدل اصطلاحًا هو المفاوضة بين طرفين أو أكثر على سبيل المنازعة والمغالبة لإثبات حق أو دحض باطل. وقد يُقصد به دفع المرء خصمه عن إفساد قوله بحجة قوية أو حتى بشبهة ما، بهدف تصحيح كلامه أو إظهار مذهبه وتقريره. فالجدل إذًا هو شكل من أشكال الحوار يسعى إلى إظهار الحقيقة أو إقناع الطرف الآخر بوجهة نظر معينة من خلال تقديم الأدلة والحجج.

معنى المراء لغةً: المراء لغةً هو الجدال، والتماري والمماراة تعني المجادلة على مذهب الشك والريبة. ويقال للمناظرة أيضًا: مماراة، وماريته أماريه مماراة ومراءً أي جادلته.

معنى المراء اصطلاحًا: المراء اصطلاحًا هو كثرة الملاحاة والاعتراض على كلام الشخص الآخر لإظهار غلطه وإفحامه، وينطلق الباعث عليه غالبًا من الترفع والرغبة في إظهار الذات على حساب الآخر. وقد عرفه الجرجاني بأنه "طعن في كلام الغير لإظهار خلل فيه، من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير". ويرى الهروي أن المراء هو "أن يستخرج الرجل من مناظره كلامًا ومعاني الخصومة وغيرها" بهدف إضعاف حجته. فالمراء يتميز عن الجدل بغلبه الطابع السلبي والهدف من ورائه الذي يتمثل في الانتصار للنفس وتحقير الآخر بدلًا من الوصول إلى الحق.

الصناعة: الصناعة في معناها الأصلي تشير إلى العمل اليدوي أو الآلي الذي يتم فيه تحويل المواد الخام إلى منتجات ذات قيمة. أما في الاصطلاح الحديث، وخاصة الاقتصادي، فيكاد مصطلح "الصناعة" يرادف القطاع الاقتصادي بشموله، حيث يشمل الصناعات الاستخراجية (كالتعدين والنفط) والصناعات التحويلية (كالتصنيع الغذائي والسيارات)، ولكنه يتوسع اليوم ليشمل أيضًا تقديم أي خدمة أو منتج مقابل ربح، كما هو الحال في الصناعة المصرفية أو صناعة البرمجيات. لذا، يمكن القول إن "الصناعة" في هذا السياق الأوسع تشير إلى النشاط الاقتصادي المنظم الذي يهدف إلى تلبية حاجات السوق وتحقيق الربح.

الدعاية - الترويج - التبشير - البروباجاندا: (بالإنجليزية: Propaganda) هي كلمة تعني نشر المعلومات بطريقة موجهة وأحادية المنظور، مع توجيه مجموعة مركزة من الرسائل بهدف التأثير على آراء أو سلوك أكبر عدد ممكن من الأشخاص. وهي تقف على النقيض من الموضوعية في تقديم المعلومات، حيث تعتمد البروباجاندا غالبًا على إعطاء معلومات ناقصة أو مشوهة، وقد تلجأ إلى الكذب عن طريق الامتناع عن تقديم الصورة الكاملة. وتعتمد بشكل كبير على التأثير على الأشخاص عاطفياً (مثل إثارة الخوف، الكراهية، أو تقديم وعود كاذبة) بدلاً من مخاطبة العقل وتقديم حجج منطقية. الهدف الأساسي من البروباجاندا هو تغيير السرد المعرفي للأشخاص المستهدفين لخدمة أجندات معينة، سواء كانت سياسية (كالتأثير على الانتخابات أو تبرير سياسات معينة)، أو اقتصادية (كالتسويق المضلل)، أو اجتماعية (كنشر أيديولوجيات محددة). فسياسياً قد تعني الترويج لأفكار أو شخصيات، واقتصادياً قد تتخذ شكل الدعاية التجارية الخادعة، ودينياً قد تتجسد في التبشير المتحيز الذي يركز على جوانب معينة ويتجاهل أخرى. وتعتمد آليات البروباجاندا على التكرار، استخدام الصور النمطية، الاستمالات العاطفية القوية، والانتقائية في عرض الحقائق عبر مختلف وسائل الإعلام.


نبدأ استهلالاً بسيطاً حتى نلج إلى لب الموضوع: صناع الجدل. قد يتصور البعض خطأً أن هؤلاء ما هم إلا أشخاص فارغون من الثقافة والمعرفة، ويلجؤون إلى الجدل لمجرد إثارة النقاش العقيم أو محاولة تغطية جهلهم.

هيهات هيهات لذلك! فإن صناع الجدل الحقيقيين في عصرنا الحالي قد يكونون من حاملي ألوية الثقافة العميقة والفكر الراسخ والعلم الغزير أيضاً. فهم ليسوا بالضرورة من يبحثون عن مجرد الانتصار اللفظي، بل قد يسعون من خلال الجدل المنظم إلى تحقيق أهداف أبعد وأكثر تأثيرًا.

قد يندهش البعض من هذه الصفات التي ننسبها إلى صناع الجدل، ولكن بنوع من الرؤية الثاقبة والتحليل العميق، نجد أن صناعة الجدل لها أهداف كثيرة ومتعددة، من أهمها: صناعة حالة معينة أو خلق تصور محدد عن شيء ما بهدف التعمية والتغطية على شيء آخر أهم وأعمق وأخطر. فقد يتم إثارة جدل واسع حول قضية ثانوية لصرف الانتباه عن قضية رئيسية، أو تضخيم حدث معين لتغطية حدث آخر أكثر أهمية وتأثيرًا على الرأي العام.

من هنا نجد أن صناعة الجدل ليست مجرد مهارة سطحية، بل هي صناعة عميقة جداً لا يقوم بها إلا أصحاب العقول الحقيقية الذين يمتلكون فهمًا دقيقًا لخبايا النفوس البشرية وطرق التفكير الإنساني. فهم يعرفون كيف يوجهون الرأي العام نحو ما يريدون تحقيقه من خلال إثارة النقاشات وتوجيهها ببراعة.

ما هو الفرق بين صناعة الجدل والبروباجاندا؟ صناعة الجدل، في أحد أوجهها، تقوم على فهم دقيق لطبيعة الجمهور المتلقي للمنتج المجادل بحقه. فهي تسعى إلى مخاطبة عقولهم (وإن كانت بهدف التوجيه) من خلال تقديم حجج وبناء نقاشات تبدو منطقية ومقنعة للوهلة الأولى.

أما البروباجاندا، فهي تعتمد بشكل أساسي على التأثير على الأشخاص عاطفياً، مستغلة نقاط الضعف لديهم ومخاطبة غرائزهم وانفعالاتهم دون الاعتماد بالضرورة على حجج منطقية أو معلومات كاملة وصادقة.

صناعة الجدل، بالنظر إلى طبيعتها القائمة على النقاش والحجة (ولو الموجهة)، هي صناعة دائمة ومتطورة دوماً بتطور وسائل الإقناع والحوار. أما البروباجاندا، فقد تكون وقتية وموجهة لحملات محددة، وإن كانت آثارها قد تستمر لفترة أطول.

وعلى الرغم من اختلاف آليات العمل والأهداف المباشرة، فإن الاثنان يشتركان في القدرة على التعمية والتأثير على الإدراك، ولكن مع اختلاف الأهداف النهائية التي يسعى كل منهما لتحقيقها، كما بينا سابقاً. فقد تهدف صناعة الجدل إلى تحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية طويلة الأمد من خلال توجيه الرأي العام، بينما قد تسعى البروباجاندا إلى تحقيق أهداف أسرع وأكثر مباشرة من خلال التلاعب بالعواطف.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.