فيلم "Jackie": بحث في أعماق الإنسانية في وجه الفقد التاريخي
يغوص فيلم "Jackie" في أعماق التجربة المروعة لجاكلين كينيدي، زوجة الرئيس الأمريكي جون كينيدي، في أعقاب اغتياله الوحشي بين ذراعيها، مستعرضًا الساعات المضطربة التي تلت تلك الفاجعة وصولًا إلى مراسم الجنازة المهيبة. يتجاوز الفيلم السرد التاريخي ليلامس جوهر الإنسانية لدى أصحاب السلطة والنفوذ، الذين غالبًا ما يُنظر إليهم على أنهم محصنون ضد الضعف البشري. وقد نجح المخرج بابلو لارين ببراعة في تقديم هذه الفكرة بصدق وعمق من خلال سيناريو متقن الحبكة، يعتمد على تنويعات سردية ثرية واستخدام مؤثر لتقنية الفلاش باك في عدة مواضع، كاسرًا بذلك أي رتابة محتملة ومعززًا لفكرة إنسانية هؤلاء القادة.
ينطلق الفيلم بمشهد استدعاء صحفي تستعرض أمامه جاكي الحقائق الموجعة التي عاشتها، مُصرةً على أن يعرفها العالم بصوتها هي لا عبر تقارير صحفية أو تحليلات خارجية. بالتوازي، يستحضر الفيلم لقطات من تسجيل الفيلم الوثائقي الذي بادرت جاكلين بإنشائه عن البيت الأبيض بعد إضفاء لمساتها الأنيقة والثقافية عليه. هنا، يتبدى حرص جاكلين على تقديم صورة مشرقة للولايات المتحدة وتراثها الثقافي، وهو ما يتناقض بشدة مع حالة الحزن والفوضى الداخلية التي ستعصف بها لاحقًا، مما يبرز عمق التحول الذي ستمر به. كما يعكس هذا المشهد سعيها لترك إرث ثقافي لأمريكا، بعيدًا عن أي دوافع شخصية.
يبلغ السرد ذروته مع لحظة الاغتيال المأساوية، حيث يتجلى الاضطراب الإنساني العميق لفقدان الزوج والسلطة والنفوذ والأسرة في لحظة واحدة. هنا، يصل السيناريو إلى قمته في الحرفية، إذ يجعلنا نعيش فترة التصدع الرهيب التي تعقب الفقد المدمر، ويكشف عن لحظات الضعف الإنساني الخالص بعيدًا عن بريق المناصب والسلطة.
تتألق ناتالي بورتمان في تجسيد عبقري لشخصية جاكلين، فلو لم تكن تؤدي دور شخصية تاريخية معروفة، لاستحق الفيلم أن يحمل اسمها. تقدم بورتمان أداءً مذهلًا ينقل بدقة الأحاسيس الداخلية المعقدة التي تعجز الكلمات عن التعبير عنها في مثل هذه المواقف العصيبة. إنها تقدم درسًا في فن التقمص، متوحدةً تمامًا مع الشخصية لدرجة أننا نرى أمامنا جاكلين كينيدي بكل تفاصيلها، في الشكل والحالة. لم يكن مجرد تمثيل، بل كان تجسيدًا ساحرًا، حيث تتضاءل الكلمات أمام طوفان الانفعالات الداخلية المتنوعة، لتظهر عبقرية بورتمان في عزفها المنفرد على أوتار الروح الإنسانية، جاذبةً المشاهد إلى حالة من الحزن النبيل والتأمل العميق.
تلعب الموسيقى التصويرية دورًا محوريًا في الفيلم، فهي ليست مجرد خلفية صوتية بل شريك أساسي في نقل المشاعر. تعبر النغمات المؤثرة بصدق عن الحالة المرئية، وتنجح في إغراق المشاهد في عمق معاناة هذه المرأة التي تحولت إلى أيقونة عالمية بفضل ثباتها الظاهري وقوتها اللافتة خلال مشهد الجنازة المهيب، حيث تصدرت المشهد بصلابة رغم الألم.
يسعى الفيلم إلى تقديم حالة إنسانية فريدة، ويحشد لذلك أفكارًا قادرة على تدمير الذات من الداخل بفعل الزلزال النفسي الناتج عن الفقد. يتجلى ذلك في الحوار الراقي والهادئ ولكنه عميق مع الكاهن، والذي يستكشف الجانب الإيماني في مواجهة المأساة، ويبرز ثقة المؤمن الراسخة بإيمانه. كما يتناول الفيلم لحظات مواجهة جاكلين لذاتها، ولومها المحتمل لنفسها في محاولة للتطهر من مشاعر الذنب، مثل التفكير فيما لو كان بإمكانها إنقاذ زوجها. ويكشف الفيلم عن أن تنظيم الجنازة المهيبة لم يكن فقط تكريمًا للرئيس الراحل، بل كان أيضًا وسيلة لجاكلين لمواجهة صدمتها والتعبير عن حزنها العميق بطريقة تحفظ كرامتها وتمنع انفجار مشاعرها المكبوتة في لحظة ضعف.
يتميز الإخراج بسلاسة مدهشة، فالمخرج بابلو لارين يتعامل مع حالة إنسانية حساسة ببراعة تجعلنا نتعايش معها دون أن نشعر بتدخله، وهو ما يُعرف بـ "السهل الممتنع".
فيلم "Jackie" هو تأمل في الموت يعظم قيمة الحياة والإنسان في جوهره، مجردًا من كل مظاهر السلطة والنفوذ، ليُظهر الجمال الإنساني النقي، لا لتضخيم هالات وهمية حول الشخصيات العامة، بل لترسيخ الصورة الحقيقية للإنسان كأيقونة الحياة.
صناع الجمال:
- ناتالي بورتمان بدور جاكلين كندي
- المخرج: بابلو لارين
جاكلين لي "جاكي" (بوفيير) كينيدي أوناسيس (بالإنجليزية: Jacqueline Kennedy Onassis)؛ (28 يوليو 1929 - 19 مايو 1994)، هي زوجة جون إف. كينيدي، الرئيس الخامس والثلاثون للولايات المتحدة، والسيدة الأولى للولايات المتحدة في أثناء فترة رئاسته من 1961 وحتى اغتياله عام 1963؛ وبعد مرور خمس سنوات تزوجت جاكلين من أرسطو أوناسيس، أحد أثرياء الملاحة اليونان، وظلا متزوجين إلى أن تُوفّي عام 1975.