هندسة المجتمعات: علم التغيير الاجتماعي والثقافي
مقدمة:
يُعد مفهوم "هندسة المجتمعات" حقلًا معرفيًا يسعى إلى فهم وتوجيه عمليات التغيير في سلوكيات الأفراد، وانطباعاتهم الجماعية، والقيم الثقافية السائدة. فكل مجتمع، بغض النظر عن درجة تطوره أو حتى مثاليته النظرية، يظل في حاجة مستمرة إلى التغيير لمواكبة التحولات المتسارعة والتطورات المتنوعة التي يشهدها العالم. يمكن أن يتم هذا التغيير إما من خلال سلطة صاحب القرار عبر سن القوانين والأنظمة الملزمة، أو عن طريق التأثير في الثقافة التي تمثل النسيج المعقد من سلوكيات ومعتقدات وقيم مشتركة يؤمن بها أفراد المجتمع ويمارسونها في حياتهم اليومية، وتتجلى في أشكال تعبيرهم الإبداعي وردود أفعالهم تجاه الأحداث المختلفة.
هندسة المجتمع من منظور النخبة وتأثيرها:
غالبًا ما تتشكل تصورات "هندسة المجتمع" في أذهان النخبة الفكرية والسياسية والاقتصادية، وتسعى هذه النخبة إلى تنفيذ رؤاها ببراعة وحرفية. وفي كثير من الأحيان، ينقاد عامة الناس، بمن فيهم من يوصفون بالسطحية أو الانقياد الأعمى، لهذه التصورات دون إعمال كبير للفكر النقدي أو التساؤل المستقل.
محطات في هندسة المجتمع المصري الحديث:
الفترة الذهبية للقوة الناعمة (1955-1965):
يرى البعض أن الفترة الممتدة من عام 1955 حتى عام 1965، إبان حكم الرئيس جمال عبد الناصر وقيادة شخصيات مؤثرة مثل ثروت عكاشة ومحمد حسنين هيكل في المجال الثقافي والإعلامي، مثلت فترة تأسيس وتألق "هندسة المجتمع" والقوة الناعمة المصرية.
بدايات الهندسة الناصرية:
شهدت فترة عبد الناصر بدايات واضحة لعملية هندسة مجتمع طموحة. ولكن، من الإنصاف القول إن هذه العملية استندت إلى قامات فكرية وثقافية عبقرية، تمثلت في النخبة التي برزت مع الحراك السياسي الجماهيري لثورة 1919 ووصلت إلى أوج عطائها في ثلاثينيات القرن الماضي، مع ظهور نجوم مثل عباس محمود العقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ. بالنسبة لهذه النخبة، كانت "هندسة المجتمع" تعني تحقيق تطلعاتهم وأحلامهم على المستويين الشخصي والعام، وكانت الهندسة في تلك الحقبة مدروسة بعناية من مختلف الجوانب الثقافية والاجتماعية والإعلامية.
زلزال الانفتاح الساداتي وهدم الأنساق الاجتماعية:
على النقيض، يرى البعض أن الرئيس أنور السادات، وبقرارات اقتصادية وسياسية حاسمة، أحدث تحولًا جذريًا أدى إلى هدم العديد من الأنساق الاجتماعية التي كانت قائمة.
مفهوم النسق الاجتماعي:
لفهم هذا التحول، من الضروري تعريف النسق الاجتماعي بأنه أية وحدة اجتماعية ضمن نظام اجتماعي أوسع، تؤدي وظيفة محددة ضمن شبكة معقدة من التفاعلات، حيث يسعى الأطراف المعنيون إلى تحقيق التكافل والاستقرار في المجتمع. وقد قدم علماء الاجتماع تعريفات متنوعة للنسق الاجتماعي، منها تعريف ليفي بأنه "أي نسق للسلوك الاجتماعي يتضمن جمعًا من الأفراد المتفاعلين"، وتعريف راد كليف براون بأنه "مجموعة معينة من الأفعال والتفاعلات بين الأشخاص الذين توجد بينهم صلات متبادلة"، وهو ما يرتبط أيضًا بالنظرية الوظيفية. وتعتبر نظرية النسق التي طورها تالكوت بارسونز إضافة هامة للنظرية البنيوية الوظيفية، حيث تدرس الأنساق الثلاثة المتداخلة: الثقافة (العلاقات المتداخلة للقيم والمعتقدات والرموز المشتركة)، الشخصية (نسق الدوافع والمؤثرات والأفكار المرتبطة بالفرد)، والنظام الاجتماعي (مجموعة الأدوار ذات العلاقة المتداخلة التي تحددها المعايير المشتركة). ويؤكد بارسونز على أن التكامل الموضوعي بين هذه الأنساق الثلاثة ضروري لفهم المجتمع، حيث لا يمكن فهم الثقافة بمعزل عن الشخصية والنظام الاجتماعي، والعكس صحيح.
قانون الانفتاح وتغيير القيم:
كانت "الضربة" التي أشار إليها الكاتب هي قانون الانفتاح الاقتصادي الذي تبنته مصر في عهد السادات بعد حرب أكتوبر، والذي حول التوجه المالي للدولة من الاشتراكية إلى الرأسمالية والاقتصاد الحر. وقد ارتبطت تلك الفترة بنمو رؤوس الأموال الخاصة وتحولها إلى ثروات كبيرة، وظهور طبقة ثرية جديدة لم تكن بارزة بعد ثورة 1952. ونتيجة لازدهار النظام الرأسمالي، تغيرت العديد من الأنشطة الاقتصادية والقيم المجتمعية، وأصبح المال هو القيمة المهيمنة، بغض النظر عن مصدره في كثير من الأحيان. وقد أدت هذه السياسات العشوائية في جوانب عديدة إلى نتائج بعيدة المدى.
عهد مبارك ونشر العشوائية المؤسسية:
في عهد الرئيس محمد حسني مبارك، اتخذت "هندسة المجتمع" منحى آخر، تمثل في نشر العشوائية في مختلف المجالات، وإن كان ذلك بطريقة ممنهجة وعلمية للغاية، مع توطين الفساد وترسيخه بكل أشكاله وطرقه. وقد أشارت تقارير محلية ودولية وحكومية إلى انتشار الفساد في العديد من الهيئات والمصالح الحكومية، وتراجع ترتيب مصر في مؤشر الفساد العالمي. وقد قدرت بعض التقارير حجم الخسائر الناجمة عن الفساد بمليارات الجنيهات والدولارات. وقد ارتكزت "أسطورة دولة مبارك" على شبكة من الشخصيات النافذة المتورطة في الفساد والإفساد، بالإضافة إلى رجال الأعمال الذين ارتبطت مصالحهم بالسلطة، مما أدى إلى ظهور تعبير "زواج المال والسياسة".
فشل يناير وإعادة هندسة المجتمع بنكهة جديدة:
يرى الكاتب أن المحاولات "البريئة والساذجة" لثورة يناير 2011 لهدم دولة مبارك قد فشلت لأسباب عديدة. وبعد إفشال هذه المحاولات، بدأت عملية إعادة هندسة المجتمع من خلال تبني تجليات الحداثة وفلسفات مثل الدارونية الاجتماعية، ونظريات مالتوس حول السكان، وفلسفة نيتشه. ويختتم الكاتب مقاله بتعبير يحمل دلالات مبهمة حول العواقب المستقبلية لهذه الهندسة الجديدة.