=====================
مهندس المجتمع الجديد: قراءة في تحولات الشرق الأوسط من منظور مصري
تبدأ الحكاية من ميدان التحرير في عام 2011، لحظة فارقة كشفت عن هشاشة بنية مجتمعاتنا وضعف أدواتنا في إدارة التغيير. لم تكن الثورة مجرد إسقاط لنظام، بل كانت زلزالاً هز أركان المنطقة بأسرها. سذاجة؟ جهل ثقافي وثوري؟ أمية في أبجديات الحراك الشعبي؟ ربما كانت كل هذه العوامل مجتمعة هي وقود الفوضى التي تلت. لقد ظننا أن الهتافات كافية لبناء وطن، وأن الحماس وحده قادر على صياغة مستقبل. لكن سرعان ما تكشف الغطاء عن عجزنا، وعن فراغ هائل تركته عقود من التهميش والتغييب.
حين تدخلت الدولة لإدارة الميدان، لم يكن ذلك نابعاً من حكمة مكتسبة، بل من ضرورة ملحة لوقف الانزلاق نحو المجهول. كانت محاولة لترتيب فوضى عارمة، لإعادة عقارب الساعة بعد أن عبثت بها أيدي غير خبيرة. لكن الثمن كان باهظاً، وما زلنا ندفع فاتورته حتى اليوم.
ثم قفزنا إلى محطة أخرى لا تقل كارثية: الاستفتاء المشؤوم. لحظة انقسام حاد، كشفت عن عمق الشرخ في مجتمعاتنا. الإسلاميون، الذين ظنوا أنهم ورثة الثورة، قدموا نموذجاً ضيق الأفق، اختزل الوطن في رؤيتهم الأحادية. والكثيرون غيرهم، ممن هللوا للتغيير، ابتلعوا ألسنتهم صمتاً أمام عربدة الأيديولوجيات. دستور مؤقت وُلد مشوهاً، والكل صامت، منتظراً ما ستسفر عنه الأيام.
انتخابات مجلس الشعب جاءت لتزيد الطين بلة. برلمان مشتت، يعكس حالة الانقسام والضبابية التي تخيم على البلاد. ثم، بضربة قلم، حل المجلس ونحن نيام. لم يكن الأمر مفاجئاً، فالأجواء كانت تنذر بعاصفة. كانت تلك هي اللحظة التي بدأ فيها قطف الثمار المرة للسنوات العجاف.
وصلنا إلى ذروة المأساة: الانتخابات الرئاسية وفوز مرسي. سنة حكم كانت كافية لتكشف عن عجز جماعة الإخوان عن إدارة دولة بحجم مصر. لقد أثبتوا أن التنظيم وحده لا يكفي للحكم، وأن الولاء الأيديولوجي يعمي عن الحقائق. سنة حكم اهتزت فيها أركان الدولة، وتصاعدت فيها نذر الفتنة.
ثم جاء العزل، ضرورة فرضها الواقع المرير. وسنة انتقالية عصيبة، شهدت أحداثاً دامية، كان أبرزها فض اعتصامي رابعة والنهضة. إنسانياً، أرفض العنف بكل أشكاله ومسمياته. لكن سياسياً، كان الأمر حتمياً لوضع حد لفوضى عارمة. كان لابد من إعادة الفئران التي عبثت في البلاد إلى جحورها، وإخماد الأصوات النشاز التي حاولت فرض رؤيتها بالقوة. ربما كان فض الاعتصام قاسياً، لكنه كان ضرورياً لاستعادة الدولة لهيبتها وسلطتها.
وأخيراً، اعتلى الرئيس السيسي سدة الحكم. لا يهمني هنا إن كنت مؤيداً أو معارضاً، محباً أو كارهاً. ما أراه بوضوح هو أنه مهندس لمشهد جديد في الشرق الأوسط، على المستويات السياسية والمجتمعية والاقتصادية.
انظر إلى السودان، لترى بوضوح بصمات مصرية تسعى للاستقرار. انظر إلى ليبيا، ستجدنا حاضرين بقوة في جهود الحل السياسي. انظر إلى الخليج، قد يبدو ظاهرياً أنهم القادة، لكن في اللحظات الحاسمة، نجد مصر في الصدارة، لاعباً أساسياً لا يمكن تجاهله.
دعك من الشعارات الرنانة عن الأخلاق والإنسانية في السياسة. هذه مفاهيم لا مكان لها في عالم القوة والمصالح. السياسة هي فن ممارسة الواقع بقوة مفرطة، هي القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة في اللحظات الحاسمة، حتى وإن كانت مؤلمة. حتى الإخوان والسلفيون، الذين يتشدقون بالدين والأخلاق، لا يختلفون كثيراً في ممارساتهم السياسية عن غيرهم. كلها ألاعيب وكلام معسول يخفي وراءه صراعاً على السلطة والنفوذ.
هناك الكثير مما يمكن قوله، وكل حدث له حديثه. لكن الخلاصة تبقى واحدة: الرئيس السيسي، شئنا أم أبينا، يقود مرحلة تحول كبرى في المنطقة، ويضع أسس نظام إقليمي جديد، ربما يكون أكثر استقراراً، وربما يحمل في طياته تحديات أخرى. وحده المستقبل سيخبرنا بالنتيجة النهائية لهذه الهندسة المعقدة.