"البؤساء": حكمة الإبداع الملتقطة على شاشة السينما
=================
"الميوزيك الإبداعي (القهر باسم القانون) وقمة الأداء في "البؤساء""
يقول العلامة عبد القاهر الجرجاني: "إن الحكمة على قارعة الطريق لمن يلتقطها." تذكرت هذه العبارة بعمق بعد أن شاهدت التحفة الفنية "البؤساء". ففي هذا العمل السينمائي الاستثنائي، يتجلى الإبداع في كل تفصيلة، بدءًا من النص الأدبي الخالد لفيكتور هوجو، مرورًا بالمعالجة السينمائية الفريدة التي قدمتها النسخة الفرنسية. لقد تم تناول موضوع القهر باسم القانون مرات عديدة في مختلف الأعمال الفنية، ولكن في هذا الفيلم تحديدًا، اتخذ الإبداع مسارًا مختلفًا ومؤثرًا بشكل خاص.
يتجلى الإبداع المتراكم في "البؤساء" بوضوح، بدءًا من الكتابة الشعرية التي صيغ بها السيناريو والحوار، والتي حافظت على روح النص الأصلي مع إضافة لمسة سينمائية آسرة. ولا يمكن إغفال الموسيقى غير العادية التي تشكل عمودًا فقريًا للفيلم، فهي ليست مجرد خلفية صوتية، بل جزء أصيل من السرد، تعبر عن المشاعر والأحداث بعمق وتأثير. هذه الموسيقى الأصيلة، التي تنساب بسلاسة بين المشاهد، تأخذنا إلى عوالم أخرى وتعمق من تجربتنا كمشاهدين.
ويأتي بعد ذلك التنفيذ البصري المتقن، بدءًا من الديكورات التي أعادت بناء فرنسا في تلك الحقبة الزمنية بدقة مذهلة، مرورًا بأماكن التصوير التي اختيرت بعناية فائقة لتخدم القصة وتعزز من جمالية الصورة، وصولًا إلى المجاميع الضخمة التي أضفت واقعية وحيوية على المشاهد الملحمية. كل هذه العناصر اجتمعت بتناغم لتهيئة المسرح لصعود الأبطال إلى قمة الأداء.
هذا الإبداع الشامل تحقق من خلال رؤية مخرج ذي نظرة فنية واضحة ووجهة نظر مبدعة، استطاع أن يجمع هذه العناصر المتنوعة في سياق واحد متكامل. لقد كانت أيام إبداع حقيقية أثمرت عملًا فنيًا أشبه بقطع موسيقية تتكامل وتتناغم فيما بينها، لنشهد إبداعًا مختلفًا على كافة المستويات. حتى وإن كانت قصة "البؤساء" محفوظة في ذاكرة معظمنا، إلا أن هذا الفيلم استطاع أن يقدمها بروح جديدة وتأثير مضاعف، خاصة في تصوير إساءة استخدام السلطة باسم القانون ليكون المجني عليه، جان فالجان، رمزًا لكل القيم الإنسانية النبيلة، ثم كيف يبني هذا الإنسان روحه من جديد ليصبح متسامحًا مع نفسه والمجتمع، بل ويتحول إلى قوة فاعلة في المجتمع الذي أغلق أبوابه عليه في البداية بسبب تغول السلطة وحماتها المتزمتين.
هذا الإبداع المذهل تجسد بشكل خاص في أداء الممثلة البطلة، الذي كان بحد ذاته قمة في التعبير والإحساس. لقد استطاعت أن تمثل وتبدع وتغني بذات واحدة وبنبرات صوتية آسرة وغير عادية، خاصة في لحظات الغناء الباكي بتقنية الكلوز (التركيز على الوجه)، حيث كانت الكاميرا تلتقط أدق تعابير وجهها، ناقلة إلينا عمق الألم والشجن في مشهد طويل جدًا نسبيًا. هذا المشهد بالذات منحنا ثقة غير عادية في قدرة الممثلة على حمل هذا الثقل العاطفي، وكشف لنا عن حالة خاصة من الشفافية التي تتملكها لدرجة نسيان الممثلة ذاتها وانغماسها الكامل في الشخصية.
وبالمثل، فإن الممثل جو هوكمان كان أحد الأعمدة الرئيسية الأخرى للعمل بعد رؤية المخرج، مقدمًا أداءً عبقريًا على كافة المستويات الحركية والصوتية والتعبيرية كما ينبغي أن يكون للحالة في كل مشهد، متقمصًا روحه وشخصيته بكل تفاصيله. هذا الاهتمام الدقيق بالتفاصيل في الأداء امتد ليشمل العناصر البصرية للفيلم، حيث ساهم المجهود الخارق لفريق الديكور والملابس والمكياج في خلق عالم غني وواقعي سمح لهذه المواهب بالتألق في مختلف المشاهد، ليقدموا لنا موجات متتابعة من الإبداع في سلاسة وتناغم.