خواطر غضبان
=======
غزة من الآخر لها ربّ، وخلاف كده هري فارغ، صدى أجوف لا يرتطم إلا بجدران الصمت المتآمر. أمام هذه الحرب القذرة، التي طال أمدها ستمائة يوم ليغدو عمرًا من الإبادة الجماعية، والتشريد الذي يقتلع الجذور، والتجويع الذي ينخر العظام، والتهجير القسري الذي يمحق الهوية، يصبح أي كلام آخر مجرد فقاعات صابون تذوب في الهواء الملوث بالبارود. لكم الله يا أهل غزة!
وهم النخبة.. قناع مزيف: وبالحديث عن الأوهام التي تحيط بنا، ينظر البعض إلى زاهي حواس كتمثال نصفي لمحمد حسنين هيكل في معبد الآثار، الصوت الأوحد، الكاهن الأعظم. لكنها نظرة قاصرة، لا تستوطن إلا في عقول البلهاء والأغبياء الذين يقدسون الأصنام الزائفة. فالحقيقة عارية، إنه كغيره، ترس صغير في ماكينة الرأسمالية المتوحشة، يسعى جاهداً للحفاظ على موقعه في هذا النظام الآكل للحياة.
تنويم الجماهير.. لعبة الكرة المخدرة: وكما أن هناك أوهامًا نخبوية، هناك أيضًا وسائل لتنويم الجماهير. فالأهلي والدوري، هذا العبث المنظم الذي يسبق النشوة الزائفة للفوز ويعقبها بخيبة الأمل، ما هو إلا أفيون الشعوب في عصرنا الحديث. فن رخيص للسيطرة على عقول الجماهير وتوجيه شغفها بعيدًا عن الجرح الغائر. وكم من برامج وصفحات ومواقع انتفخت جيوبها من هذا الوهم المصنوع. والكل شرب المقلب، ودخل في حلقة مفرغة من الهتافات والتحليلات التافهة. كفاية هطل، كفى تضييعًا للوقت في نقاشات عقيمة حول لوائح وقوانين لا تسمن ولا تغني من جوع الواقع المرير.
سلطة التزييف.. حين يصبح الكذب قانونًا: وهذا التلاعب بالعقول لا يتوقف عند حدود الكرة، بل يمتد ليشمل الحقائق ذاتها. فكما قالها "العمدة عتمان": الوزق ورقنا، والدفاتر دفاترنا. لتلخص عبثية الحقائق في عالمنا، حيث يُعاد تدوير الكذب ليصبح قانونًا مُلزمًا.
الإعلام.. مرآة تعكس التفاهة: وبدورها، تلعب وسائل الإعلام دورًا محوريًا في هذا التزييف، فهي ليست مرآة تعكس الواقع بل عدسة مكبرة للتفاهة. فأخبار الفنانين، طلاقهم وزواجهم وخلافاتهم، هذا السيل الجارف من الكلام الفارغ، ما هو إلا وجبة خفيفة تقدم للأغبياء قبل الوجبة الرئيسية من القمع واليأس. حتى أنهم يروجون لأوهام بقاء هؤلاء التافهين في دائرة الضوء، بينما الحقيقة تصرخ في الزوايا المظلمة. ويا له من تصديق أعمى!
حوادث مفبركة.. ترسيخ الاستثناء كقاعدة: وإلى جانب تضخيم التفاهة، هناك آلية أخرى لتخدير الوعي، وهي نشر النوادر من الحوادث. تلك القصص الغريبة التي تشذ عن المنطق، فهدفها خبيث: أن تستقر في عقول الناس البسطاء فكرة أن الشر محدود وقابل للسيطرة (مجرد رشوة صغيرة أو نصب بسيط)، ليقارنوا أنفسهم بـ "الوحوش الكبيرة اللي عملت مصايب" ويحمدوا الله على "نعمة" سلامتهم النسبية. وفي النهاية، يجد الجميع أنفسهم في طاحونة الغاية المتحجرة لهذا النظام، بين مطرقة الأرانب وسندان الضباع.
أباطرة الوهم.. فقاعات السوشيال ميديا: وفي هذا المناخ المليء بالأوهام والتضليل، يظهر نوع آخر من الزيف، وهم "أشاوس السوشيال ميديا"، ملوك تويتر وفيسبوك وإنستغرام. ما هم إلا فقاعات صابون تلمع للحظة ثم تنفجر بلا أثر. كل منهم يعتقد أنه يمتلك الحقيقة المطلقة وهو غارق في جهله المركب. وتلك الأمورة التي تعرض جسدها لتحصد الملايين، ليست سوى تلميذة نجيبة في مدرسة الرأسمالية المتوحشة، تستثمر جسدها في سوق العبيد الحديث.
الجموع الصامتة.. وقود الاحتراق البطيء: وأخيرًا، وسط كل هذا الزيف والخداع، تقف الجموع الصامتة، تلك التي لم تعد تُحصى كبشر حقيقيين في قاموس هذا النظام، لكنها تتشبث بوهم الحياة والفهم، ويا للمفارقة، لديهم آراء في قضايا مصيرية! إنهم كائنات طيبة، أبطال في سيرك كبير لا يدركون أنهم مجرد دمى تحركها خيوط خفية، بلا عقل ناقد، وبالتالي بلا قيم حقيقية وأخلاق راسخة ودين مستنير في مواجهة هذا الظلام.
سيسأل سائل بفضول: ومن الذي يستحق الإعجاب في هذا المشهد الكئيب؟
سأجيب بمرارة:
أهالي العنابر، سواء سجناء الجريمة الصغيرة، أو أصحاب الياقات البيضاء في زنازين السلطة، أو حتى المهمشون الذين لفظهم المجتمع إلى هوامشه المظلمة.
لأنهم يمثلون الوضوح الصارخ في عالم النفاق. كراهيتهم عارية، وخستهم سافرة، وندالتهم لا تعرف التورية. إنهم لا يعبدون إلا أنانيتهم التي تحقق لهم شهواتهم المحرمة في كل شيء. وهتافهم الوحيد: الكراهية هي الحياة، خاصة إذا كانت مغروسة في تربة السيكوباتية الأصيلة والنفسية السامة التي يغذيها هذا النظام. ربما أجد في عريّهم هذا صدقًا مؤلمًا يغيب عن زيف المجتمع المنافق.