- تشريح مجتمع الكراهية: ليالي الحلمية.
- -====================
يظل مسلسل ليالي الحلمية علامة فارقة في تاريخ الدراما العربية، ليس فقط لسرديته الملحمية التي تؤرخ لحقب متعاقبة من تاريخ مصر الحديث، بل لعمقه في تحليل النفس البشرية وتأثرها بالتحولات الاجتماعية والسياسية. يضعنا المسلسل أمام مرآة تعكس كيف يمكن للظروف القاسية والتناقضات الحادة أن تولد شعورًا عميقًا بالكراهية، يحيل الأفراد إلى قوى مدمرة لأنفسهم ولمجتمعاتهم.
تبرز شخصية زهرة سليمان غانم كنموذج صارخ لهذا التشوه الناتج عن بيئة مضطربة. إنها "بنت الكراهية" بحق، وليدة صراع طبقي معقد، حيث تتداخل طموحات الأرستقراطية الزائفة مع انتهازية البرجوازية الصاعدة. هذه الخلفية الطبقية المتناقضة ربما غرست في زهرة إحساسًا دائمًا بالعداوة وعدم الثقة تجاه الآخرين، حيث ترى العالم من منظور صراع المصالح. على سبيل المثال، يمكن ملاحظة كيف كانت زهرة تتعامل باستعلاء مع شخصيات من الطبقة الشعبية، بينما في الوقت نفسه تسعى للاندماج في أوساط النخبة الصاعدة بشتى الطرق الانتهازية. هذا المزيج السام يخلق كيانًا ممزقًا داخليًا، فاقدًا للانتماء الحقيقي، ولا يرى في الآخرين سوى أدوات أو عقبات في طريق تحقيق ذات مشوهة. يصبح تدمير علي البدري، الحالم بقيم إنسانية أسمى، فعلًا نابعًا من هذا الفراغ الوجودي والرغبة المرضية في إثبات الذات على حساب الآخرين، ربما كرد فعل على شعورها بالدونية تجاه مثاليته ونقائه.
أما علي البدري، فهو يمثل مأساة جيل بأكمله، جيل اصطدم بواقع مجتمع يعج بالنفاق والانتهازية. لقد كان ضحية ليس فقط لزهرة، بل لقسوة مجتمع لم يستطع استيعاب أحلامه، ولـ "نخبة مصنوعة" حجبت عنه فرص التغيير الحقيقي. هذه النخبة، التي وصفها التحليل الأولي بحقدها وغلها، ساهمت بشكل كبير في خلق بيئة سامة أدت إلى يأس علي وتحوله. آليات عمل هذه النخبة، والتي تجسدت في الوشايات والمؤامرات للحفاظ على مراكزها، زرعت بذور الإحباط واليأس في نفوس أمثال علي. سجنه ظلماً في عهد سطوة الزعيم، وهو مثال صارخ على كيف يمكن للمؤسسات السياسية أن تساهم في صناعة الكراهية عبر القمع والظلم، حيث تحول السجن إلى بيئة قاسية غيرت مفاهيمه عن العدالة والمثل العليا. ثم انجرافه نحو جاذبية الرأسمالية المتوحشة في عصر الانفتاح، والذي وعده بالخلاص المادي لكنه لم يملأ فراغه الروحي، كلها عوامل ساهمت في تحويل هذا الشاب الطموح إلى "وحش بقناع بشر". لقد تعلم علي، بتكلفة باهظة، أن الكراهية قد تكون رد فعل أعمى على الإحساس بالظلم والعجز، وأن القوة المادية قد تكون البديل الوحيد لقيم فقدت معناها.
لا يقف المسلسل عند حدود تصوير هاتين الشخصيتين المأساويتين، بل يتجاوز ذلك ليطرح تساؤلًا أعمق حول "صناعة الكراهية" على مستوى المجتمع ككل. كيف يمكن لـ "هندسة المجتمع" أن تخلق بيئة خصبة لنمو مثل هذه المشاعر المدمرة؟ إن الإحساس العميق بالنقص والدونية، الناتج عن هزائم متكررة على المستويات الفردية والجماعية، يمكن أن يدفع الأفراد إلى البحث عن تعويض زائف عبر ممارسة التسلط والغطرسة على الآخرين. يصبح "الغباء" هنا وسيلة لإثبات وهم التفوق وتعويض الشعور الداخلي بالضعف. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تحليل تأثير الانفتاح الاقتصادي وسياساته على القيم والأخلاق، حيث خلقت بيئة تنافسية شرسة ربما ولدت الحسد والكراهية بين أفراد المجتمع، وتآكلت فيها قيم التعاون والتضامن.
إن مأساة جيل الستينات، التي تجسدها شخصية علي البدري بوضوح، هي شهادة على كيف يمكن للصدمات التاريخية الكبرى – من حرب 1967 إلى حروب الاستنزاف ثم الانفتاح الاقتصادي – أن تدمر البنية المعنوية للمجتمع وتخلق شعورًا بالإحباط والضياع. في هذا المناخ القاتم، تصبح الكراهية وسيلة للتعبير عن الغضب والإحباط، حتى وإن كانت موجهة بشكل عشوائي ومدمر. يمكننا هنا مقارنة مسار علي بشخصية سليم البدري، الذي عانى هو الآخر من تحولات المجتمع لكنه حاول الحفاظ على قدر من قيمه ومبادئه، مما يوضح أن مسار علي لم يكن حتميًا تمامًا، وأن هناك خيارات أخرى رغم صعوبتها.
على المستوى النفسي، يمكننا استكشاف المراحل التي مر بها علي من الحالم إلى الوحش. ربما لجأ إلى آليات دفاعية مثل الإنكار أو الإسقاط للتعامل مع صدماته المتتالية، حيث أنكر قيمه السابقة وأسقط إحباطه على الآخرين، مما أثر على بنيته النفسية وحوله إلى شخص أكثر عنفًا وكراهية.
ختامًا، يمكن القول إن ليالي الحلمية يقدم لنا درسًا قاسيًا حول الآثار المدمرة للكراهية، وكيف يمكن أن تنشأ وتنمو في تربة مجتمعية موبوءة بالتناقضات والظلم. زهرة وعلي ليسا مجرد شخصيتين دراميتين، بل هما رمزان لكيف يمكن للظروف أن تحول الإنسان إلى مصدر للخراب. المسلسل يدعونا للتفكير بعمق في آليات "صناعة الكراهية" في مجتمعاتنا المعاصرة، وضرورة مواجهة الأسباب الجذرية التي تؤدي إلى هذا الشعور المدمر قبل أن يستفحل ويقضي على كل ما هو إنساني فينا. كما يدعونا إلى التفكير في مسؤولية كل من الفرد والمجتمع في مواجهة هذه الظاهرة، والبحث عن سبل لبناء مجتمعات أكثر عدلاً وتسامحًا، والعمل على تفكيك حلقات الكراهية التي قد تدمر نسيجنا الاجتماعي.