الحيرة والصبر- نبضات حائرة في صمت الزمان

 الحيرة والصبر
  • نبضات حائرة في صمت الزمان
  • ========

  • تتملكني الحيرة الآن، حيرة تتجاوز حدود اللحظة الراهنة، لتلامس جوهر الوجود الإنساني. إنها ليست مجرد صعوبة في التعبير أو بداية الكتابة، بل هي تساؤل عميق عن معنى هذه الرحلة التي نخوضها، وعن الغاية من هذا الوجود المليء بالتناقضات. فمن أين نبدأ فهم هذا العالم المعقد، وإلى أي مدى يمكن أن تصل بنا تأملاتنا في هذه الحياة التي تبدو أحيانًا كدائرة مفرغة، تدور بنا دون أن نجد لها نقطة بداية أو نهاية واضحة؟ هذا الشعور بالدوران اللانهائي يزيد من وطأة الحيرة، ويجعل الروح تتوق إلى نقطة ارتكاز ثابتة في هذا الكون المتغير.

    وتتفاقم هذه الحيرة بشكل خاص حين يلوح اسمك على شاشة ذاكرتي، كشرارة تشعل فتيل التفكير العميق. كيف يمكن لرمز بسيط أن يستدعي كل هذه العواصف الداخلية من التساؤلات والمشاعر المتضاربة؟ إن مجرد حضور طيفك في ذهني يفتح نوافذ على عوالم من الاحتمالات والتأملات، ويجعلني أقف عاجزًا أمام قوة هذا التأثير الخفي. فما بالك إذن لو تجسدت صورتك أمامي بكل تفاصيلها الحية؟ كيف يمكن للغة المحدودة أن تستوعب هذا الحضور الطاغي الذي يملأ الوجدان؟ عندها فقط، يصبح الصدق في التعبير عن هذه الحيرة أمرًا ممكنًا، لأنها تتحول من شعور معيق إلى رفيق صامت، يسير بجانبي وأنا أحاول التقاط ملامحك في مرآة الروح.

    إنها الحيرة بكل تجلياتها، حين أحاول أن أصف هذه الدنيا التي تحتضن في ثناياها كل ألوان الطيف الإنساني: الجمال الذي يخطف الألباب والقبح الذي يثير الاشمئزاز، الأفراح التي تضيء الروح والأتراح التي تثقلها بالأسى، لحظات اللقاء التي تغمرنا بالدفء والهجر الذي يترك فينا ندوبًا لا تندمل. كيف يمكن للكلمات القاصرة أن تحيط بكل هذا التنوع الهائل في المشاعر والتجارب؟ لذا، أجدني مضطرًا أن أبدأ هذه المحاولة اللغوية وأنا أتسلح ببقايا صبر كاد أن ينفد من طول الانتظار والشوق إليك، ومن شدة اللهفة التي تكاد تحرق شغاف قلبي، ومن كثرة الإشفاق على نفسي التي تتوق بلهفة إلى الاطمئنان عليك.

    أتحدث عن هذه الدنيا التي أراها بعين البصيرة جوهرة فريدة ونادرة، لكن المفارقة المؤلمة هي أن هذه الدنيا نفسها، في غمرة ماديتها وزخرفها الظاهري، غالبًا ما تغفل عن قيمة هذه الجوهرة الحقيقية. أما أنا، فقد وهبني الله نورًا داخليًا، بصيرة نافذة تكشف لي عن هذا الكنز الدفين، كنز لا تدركه العيون العابرة المنشغلة بالسطح، بل يختص به أصحاب القلوب الشفافة الذين يرون ما وراء الحجب. هذه الجوهرة ليست بحاجة إلى تلميع أو تزيين لتبهر الناظرين، فهي متألقة بذاتها، تشع نورًا أصيلًا ينبع من جوهرها النقي.

    أتأمل في هذه الحياة وأرى فيها نوعًا خاصًا من الضعف الإنساني، ضعفًا عميقًا يرتقي ليصل إلى مرتبة القوة الحقيقية. أسميه "قوة الضعف"، وهو ليس ضعف الاستسلام أو الهشاشة التي تنهار أمام أول اختبار، بل هو ضعف الاحتياج الفطري للحنان والأمان، للدفء الإنساني الذي يسند الروح. إنه الاحتياج إلى نظرة حانية تمحو آثار الوحدة، وإلى يد تربت على الكتف فتبعث فينا شعورًا بالطمأنينة والسند، وإلى كلمة رقيقة تروي ظمأ الروح في قسوة الحياة. هذا الاحتياج ليس علامة نقص، بل هو دليل على عمق إنسانيتنا وقدرتنا على التواصل والتعاطف.

    أتحدث عن عقل يختزن إمكانات هائلة، طاقة جبارة للإبداع والابتكار والتنظيم الذي يرتقي بالحياة، ولكنه مع الأسف يعاني من الجمود والإهمال لعدم وجود البيئة المناسبة التي تحفزه وتطلق طاقاته الكامنة. تخيلوا هذا المحيط الهائل من القدرات العقلية حبيسًا في قوالب تقليدية، ينتظر الشرارة الأولى للإلهام ليتحرر وينتج أفكارًا تغير مسار الوجود.

    وبالمثل، أتحدث عن عاطفة مكبوتة، تتوق إلى الانطلاق والتدفق في مسارها الطبيعي، لتروي القلوب التي تستحق هذا الفيض من المشاعر الصادقة، ولتنبت وتثمر ثمارًا طيبة لا يعرف حلاوتها إلا أصحاب القلوب الرقيقة المرهفة التي تقدر قيمة الحب والعطاء. يا له من ألم أن تحبس ينبوعًا صافيًا من المشاعر النبيلة!

    وأخيرًا، أتحدث عن عيون تحمل في نظراتها سحرًا فريدًا، لو أطلقت سهام أشعتها على الجبال الراسخة، لانهارت وتذوب من فرط الجمال الآسر، ولكن هذا الكنز من السحر مخبأ خلف نظرة منكسرة حزينة، وكأنه سر دفين لا يُراد له أن يُكتشف. وعن بسمة رقيقة صافية، تتدفق عذوبة كينبوع رقراق ينهل منه كل من يلوح له في الأفق، لكنها دائمًا ما تختبئ خلف قناع من العبوس المذهل، وكأنها لؤلؤة نادرة تخشى أن تظهر في زمن لا يقدر قيمتها.

    كل هذا التشخيص العميق لحالي وللعالم من حولي، ينبع من إحساسي القوي بأنني أعيش في زمن لا يشبه روحي، في عصر تسوده قيم زائفة وأولويات معكوسة، زمن الزيف والكذب والخداع الذي يتغلغل في كل تفاصيل الحياة. وأنا الذي لا أتقن هذه الأساليب الملتوية، ولا أعرف كيف أسلك دروب المكر والخداع، أجدني غريبًا ومهمشًا في هذا المحيط الزائف الذي يكافئ الظاهر ويغفل عن الجوهر. ولكن يقيني يزداد رسوخًا يومًا بعد يوم بأنني سألتقي يومًا ما بذلك "الجواهري" الحقيقي الذي يمتلك البصيرة والتقدير لقيمة اللآلئ النفيسة، ويعرف قدرها الحقيقي، ويصونها حق الصيانة. هذا الأمل المتوهج في أعماقي هو الذي يمنحني القوة للاستمرار في مواجهة هذا التيار الجارف، والتمسك بقيمي الأصيلة في زمن الأشباه.

    التعليقات
    0 التعليقات

    ليست هناك تعليقات :

    إرسال تعليق

    مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

    يتم التشغيل بواسطة Blogger.