بصيص النور في لجّة اليأس: خاطرة عن الانعتاق بالإنسانية
في خضمّ معترك الحياة، بتلاطم أمواجها العاتية وتقلبات أقدارها التي قد تجرفنا نحو مهاوي اليأس، يجد المرء نفسه أحيانًا وقد تجرّد من كلّ سند، وحيدًا في مواجهة تحديات تبدو عصيّة على التّرويض. تلك اللحظات المظلمة، التي تجسّدت في ثنايا خاطرتي بصورة بحر هائج لا يرحم، ومركب تائه فقد بوصلته وقائده، تمثل اختبارًا قاسيًا لصلابة الروح وقدرتها على التّشبّث ببصيص الأمل.
في ذلك العباب المائج بالصعاب، حين تتوارى ملامح الأنس، ويخفت صوت الرفيق والصاحب، يستبدّ بالقلب شعور عميق بالغربة والانقطاع عن نسيج الوجود. وكأنّ النفس أسيرة جزيرة موحشة لا يزورها سوى نعيق الغربان الشّؤم، رمز الوحدة والضّياع. في تلك السّاعات العصيبة، يتسلّل اليأس كدبيب النّمل إلى أعماق الرّوح، ويبدأ التّساؤل ينهش في يقيننا، متناولًا جدوى العلاقات الإنسانية، وقيمة المبادئ التي طالما استندنا إليها. بل إنّ جذور الإيمان ذاتها قد تتعرّض لاهتزاز عنيف في وجه هذا الإحساس القاهر بالعزلة.
ولكن، حتّى في أحلك اللّيالي، يبقى هنالك وميض خفيّ للأمل، شرارة قادرة على إشعال جذوة التّفاؤل في قلبٍ كاد أن يستسلم للظّلام. في تجربتي الشّخصية هذه، تجلّى هذا النّور السّاطع في صورة إنسان نبيل، امتدّت يده نحوي كطوق نجاة في لحظة كنت فيها على شفا الغرق في بحر الأحزان المطبق. في البداية، ربّما غلبني الشّكّ وسوء الظّنّ، وتوجّست من دوافع هذا الغريب، وربّما تخيّلته في صورة قرصان قد يزيد جراحي عمقًا. لكن سرعان ما تبدّدت تلك الهواجس الكاذبة أمام النّقاء الصّادق الذي شعرت به يسري في لمسة يده الحانية ونظرة عينيه الرّحيمة.
تصف الأبيات بصدق بالغ ذلك التّحوّل العميق الذي طرأ على مشاعري المضطربة. فبعد أن كنت أرتجف خوفًا وذلًا، شعرت بدفء الأمان يغمر روحي، وكأنّ يدًا سماوية انتشلتني من قاع اليأس الموحش إلى شاطئ السّلام. وبفضل ذلك الفعل الإنسانيّ السّامي، استعدت تدريجيًا ثقتي بالحياة، وتجدّدت قناعتي الراسخة بقوّة الرّوابط الإنسانية والقيم النّبيلة التي تسمو بنا كبشر. بل إنّ هذه التّجربة المريرة قادتني من جديد إلى ينابيع الإيمان الصّافية، بعد أن كاد اليأس أن يقتلع جذورها من قلبي المثقل.
إنّ هذه الخاطرة ليست مجرّد سرد لوقعة عابرة في سجلّ الذّاكرة، بل هي تأمّل عميق في قدرة الإنسان على أن يكون السّند والعون لأخيه الإنسان في أحلك الظّروف وأشدّها قسوة. إنّها شهادة حيّة على أنّ جوهر الإنسانية الحقيقيّ يتجلّى في العطاء غير المشروط، وفي البذل السّخيّ دون انتظار مقابل أو جزاء. إنّها تذكير بأنّ فعلًا بسيطًا ينبض باللّطف والعطف قد يحمل في طيّاته قوّة هائلة قادرة على تغيير مسار حياة شخص يصارع أمواج اليأس العاتية، وإعادة إشراق النّور إلى قلبه بعد أن خيّم عليه ظلام القنوط.
الخاطرة:
في بحر هادرٍ عبَرتُ وحيدًا ومركبي تائهٌ، واليأسُ مديدُ نظرتُ حولي، فما لاحَ لي أُنْسٌ سوى غربانِ تنعقُ بالوعيدِ
وصحتُ أين الأهلُ والأحبابُ؟ وأين صحبتي؟ تلاشى السرابُ فعدتُ للذاتِ، قلبي كسيرُ وكفرتُ بالكونِ، والضميرُ
مددتَ يدًا، فخِلْتُ افتتاني بأنكَ قُرْصَانٌ، أتاني لِشَاني همهمتُ رعبًا، يذوبُ جَناني فكانتْ نظرةُ صفوٍ وحنانِ
مددتُ يدي، فزالَ الضنى ورحتُ لِدِفءٍ، بهِ مُنى وبكَ عدتُ لحِضنِ الإيمانِ فما أقولُ؟ أنتَ نِعمَ الإنسانِ