محامى الشيطان The Devil's Advocate

محامى الشيطان 
=======

"محامي الشيطان": صراع الشر بين الداخل والخارج

في تأملي لفيلم "محامي الشيطان"، وجدتني أبحث عميقًا في السؤال الأزلي: هل تنبع الكوارث والموبقات في مجتمعاتنا من قوى خارجية كالشيطان، أم أنها تتأصل في أعماق النفس الإنسانية؟

يبدأ الفيلم بمشهد محاكمة مدرس متهم بالتحرش بطالبة، حيث تنهار الضحية أمام المحكمة. يلمح المحامي دلائل إدانة المتهم، وفي لحظة صحوة ضمير، يفكر في رفض القضية. لكن ظهور صحفي بكلمات محبطة ("أخيرًا ستُهزم اليوم!") يدفعه للعودة إلى قاعة المحكمة، ليستخدم براعته القانونية في تبرئة الجاني، وكأن كلمات الصحفي كانت الشرارة التي أيقظت غروره.

هنا يبرز دور الشيطان (لعنة الله عليه) كمحفز للشر الكامن في النفوس الفاسدة. إنه يستغل الأنانية والشهوات المتنوعة ليقود الإنسان إلى وهم بأنه مركز الكون، أو حتى إله بذاته.

بعد هذا الانتصار المشبوه، يُغرى المحامي بمنصب مرموق في شركة كبرى بالعاصمة، مع وعود بالمال والنفوذ والشهرة. ورغم تردد بسيط ونصيحة أمه وزوجته بالرفض، ينجذب للإغراء.

في العاصمة، يستقبله الشيطان في هيئة بشرية، ويدور بينهما حوار يستهدف استثارة طموحه الشرير. يخبره الشيطان بأنه لم يواجه تحديات كافية، ويتوقع انهياره في المدينة الكبيرة. لكن الأنا المتأصلة في المحامي تأبى الهزيمة، وسرعان ما تُعرض عليه قضية معقدة يفوز بها ببراعة خفية، مُشبعًا غروره ومتلقيًا التقدير كنجم في أوساط النخبة.

بالموازاة، تنبهر زوجته بالحياة الجديدة في العاصمة والشقة الفاخرة، وتتأثر بمعاونين من قِبل الشيطان. تحاول تزيين الشقة باللون الأخضر رمز النماء، لكن تأثيرهم يُفشل محاولتها، وينتهي الطلاء بلون باهت يعكس ضياعها الذاتي في متاهة الحياة الجديدة.

ينغمس المحامي في حياته الجديدة، مُهملًا زوجته التي كان يعشقها، وينجذب لنساء أخريات من النخبة. تمرض زوجته ويتركها وحيدة.

في لحظة انتصاره الزائف، يتدخل الشيطان ليذكره بزوجته وحبهما الصادق، محاولًا إيقاظ ضميره. لكن الأنا المتضخمة تسيطر عليه، ويؤجل العودة إليها حتى ينتهي من قضيته الحالية، وكأن الشيطان لا يريد للإنسان السعادة حتى في طريق الشر.

تتصاعد الأحداث وتحدث المواجهة بين الشيطان والإنسان، في حوار يكشف عن وجهة نظر كل منهما للكون والإله والدين. وبسبب سيطرة الشيطان على شهوات الإنسان وغرائزه، ينجح في إقناعه جزئيًا. لكن دون أن يشعر، يمنح الشيطان الإنسان مفتاح الانتصار: الإرادة الحرة. وعندما يمتلكها الإنسان، ينتصر.

يُجسد هذا الصراع الآية الكريمة من سورة إبراهيم: ﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ۖ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ۖ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)﴾  

في الختام:

يكشف الفيلم عن حقيقة مؤلمة: إن كان هناك شيطان خارجي يُغوي، فهناك أيضًا شياطين داخلية تتمثل في الأنا والهوى.

يُغفل الفيلم عمدًا دور الدين، الذي يقدم للإنسان نظامًا لحياته وعلاقته بالله والمجتمع، ويحذره من الانقياد لشهواته. لذا، يمثل الدين تحديًا حقيقيًا للأفكار والأيديولوجيات الأرضية التي غالبًا ما تستغل رغبة الإنسان في التميز وتجعله عبدًا لأوهام زائفة.

إن النخبة في كل مكان، بشعاراتها وقوانينها، قد تمثل "كهنة جدد" يسعون للسيطرة على أفكارنا وأرواحنا، طالما وافقنا على تسليم ذواتنا لهم.

كل منا يحمل شياطينه الداخلية، ويتأرجح بين الخير والشر، كما وصف الله تعالى المنافقين في سورة النساء: ﴿مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)﴾

يُعد الفيلم تحفة سينمائية بكل المقاييس، ويقف أداء عمالقته آل باتشينو وكيانو ريفز وتشارليز ثيرون كشهادة على عبقريتهم. كما خدمت المؤثرات البصرية المتقنة والإخراج السلس والتصوير الطبيعي والموسيقى المعبرة فكرة الفيلم بعمق.

ملاحظة أخيرة:

عند إسقاط أحداث الفيلم على واقعنا المعاصر، نجد أننا ربما لم نعد نواجه "محامي الشيطان" فحسب، بل أصبحنا في زمن "الشيطان المحامي"، حيث تتداخل المصالح والنفوذ، ويصعب التمييز بين الحق والباطل.

عناصر الفيلم:

  • مأخوذ عن: رواية محامي الشيطان للروائي أندرو نيدرمان.
  • البطولة: كيانو ريفز، آل باتشينو، تشارليز ثيرون، هيثر ماتاراتزو.
  • الموسيقى: جيمس نيوتن هوارد.
  • المخرج: تايلور هاكفورد.
  • تصوير سينمائي: أندريه بورتكوياك.
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.