سينما العولمة: "حرائق" واستعارة الصراع العالمي
شاهدت فيلم "حرائق"، وهو إنتاج كندي من تأليف وجدي معوض، الفلسطيني المهاجر إلى كندا، وبطولة آسرة للبنى إيزابيل، وموسيقى تصويرية مؤثرة من تأليف: Grégoire Hetzel.
يستهل الفيلم بمشهد فرار يائس لفتاة مع حبيبها في مكان مُبهم، ليُكتشف أمرهما وتُزهق روح الحبيب بوحشية. في هذا المناخ القاتم، تُفصح الفتاة لجدتها عن حملها، لتنطلق سلسلة من الأحداث المأساوية التي تتشابك فيها مصائر الأفراد وتاريخ منطقة ملتهبة.
تلد الفتاة طفلها، الذي يُوسم بعلامة دائمة في رجله اليمنى، ليُرسل إلى دار للأيتام في خطوة قاسية. بينما تنطلق الأم في رحلة دراسية بعيدة، وفاءً لوعد قطعته على نفسها لجدتها، يُترك الطفل لمصير مجهول في خضم صراع متصاعد.
ينقلنا المخرج ببراعة إلى كندا، حيث تحتضر الأم، نوال مروان، وتُفتح وصيتها لأبنائها التوأم، جان وسيمون. تحمل الوصية تكليفًا مؤلمًا: البحث عن أخ لم يعرفوه وأب ظنوا أنه مات. هنا، يبدأ الأخوان رحلة استكشاف ماضٍ مُثقل بالأسرار والعنف.
عبر تقنية الفلاش باك المؤثرة، نعود إلى الماضي لنشهد حياة نوال المضطربة. طالبة جامعية يافعة تجد نفسها في قلب اضطرابات إقليمية وحشية بين المسلمين والمسيحيين. في سعيها المحموم للعثور على ابنها المفقود، تعود إلى المنطقة المنكوبة، ليشهد المشاهد أهوال التطهير العرقي الذي قاده اليمين المسيحي، تاركًا وراءه مشاهد قتل وحرق وإبادة جماعية. وبسبب هويتها المسيحية، تنجو نوال بأعجوبة من محرقة مروعة، لكنها تقرر الانتقام بقتل زعيم الميليشيا المسيحية الذي تعمل في منزله كمدرسة لابنه.
يُزج بنوال في السجن، حيث تتعرض لأبشع أنواع التعذيب، لكن روحها تأبى الانكسار. وسط الظلام واليأس، كانت تُعرف بـ "المرأة التي تغني"، رمزًا للصمود الإنساني في وجه القمع. حتى أُرسل إليها المحقق الأكثر شراسة، أبو طارق، الذي ارتكب جريمة اغتصاب بشعة نتج عنها ولادة التوأم جان وسيمون في زنزانتها.
في نهاية المطاف، تقوم ميليشيات مناهضة بتهريب نوال وتوأمها خارج البلاد إلى كندا، حيث تبدأ حياة جديدة مليئة بالصمت والمعاناة حتى وفاتها.
خلال رحلة البحث المضنية التي يقوم بها جان وسيمون عن أخيهم المفقود، تنكشف الحقيقة المروعة: الأخ والأب هما شخص واحد، أبو طارق، الجلاد الذي اغتصب أمهما. هذا الكشف الصادم يضع الأخوين أمام تحدٍ أخلاقي وإنساني بالغ التعقيد.
يُحسب للممثلة لبنى إيزابيل تقديم أداء استثنائي يجسد قوة وصلابة نوال في وجه المحن.
تبرز فكرة الفيلم حول الصراع الديني في الشرق الأوسط بشكل واضح من خلال لغة الحوار العربية التي يتحدث بها العديد من الأبطال، لكن المخرج يتجنب تحديد بلد معين، وكأن هذه المأساة هي سمة مميزة للمنطقة بأسرها. هذا التجريد المكاني يخدم رؤية "سينما العولمة"، حيث يصبح العنف باسم الدين ظاهرة عالمية تتجاوز الحدود الجغرافية.
نجح الإخراج ببراعة في استغلال المناظر الطبيعية الوعرة وآثار الدمار الناتج عن الحروب المذهبية لنقل بشاعة الصراع وتأثيره المدمر، خاصة للمشاهد الغربي.
قد يُعتبر عدم تحديد الأماكن بدقة نقطة ضعف من قبل البعض، لكن يبدو أن هذا التسطيح كان مقصودًا لتجنب الدخول في تعقيدات سياسية لدولة معينة، مع الإشارة الضمنية إلى منطقة مثل لبنان التي شهدت صراعات مماثلة.
يُظهر الفيلم احترامًا ملحوظًا للعادات والتقاليد العربية، سواء في الملابس أو قيم الترابط الأسري أو حتى في صور التكافل ومساعدة المحتاجين.
"الحرائق" - Incendies: فيلم يمسنا بعمق، يحكي جزءًا من حكاياتنا الموجعة، لكن بعيون غربية ربما تحمل بعض الاختلاف في زاوية الرؤية والتفسير، وبأفكار حداثية تطرح أسئلة وجودية عميقة.
إنه فيلم يستحق المشاهدة بتعمق، يدعونا للتأمل في لغز الصراع الدامي الذي يحصد الأرواح باسم الدين، وهو دين أُنزل في الأصل لإسعاد البشرية وهدايتها. كيف يمكن أن يتحول هذا النبع الروحي إلى هاوية من القتل والبشاعة؟
تسمية المقال بـ "سينما العولمة" تأتي من هذا التوجه نحو التجريد المكاني، حيث أراد الكاتب والمخرج القول بأن بذور الصراع الديني يمكن أن تنبت في أي مكان في هذا العالم الذي أصبح كقرية كونية واحدة.
تتويجًا لجهوده الفنية، حصل الفيلم على جائزة جيني لأفضل سيناريو، وهي جائزة الأكاديمية الكندية للسينما والتلفزيون.