شاهدت فيلم "مامي"، وهو فيلم كندي ناطق بالفرنسية والإنجليزية. وهو من الأفلام الحوارية. الفيلم يعالج سياسة الخدمات الصحية الكندية، وخاصة البند 14 س، والذي يمكن اعتباره البطل الصامت والمؤثر في قرارات الأم ومصير الابن. ينص البند على: (أن والد الطفل الذي عنده اضطرابات سلوكية، وهو في حالة ضائقة مالية أو خطر جسدي أو نفسي، لديه الحق القانوني والمعنوي في أن يضع طفله تحت رعاية أي مستشفى عمومي دون أي إجراء قانوني مستحق).
كانت تلك النقطة، هذا القانون البارد الذي يهدد بتفكيك الروابط الإنسانية باسم "المصلحة العامة"، هي التي ارتكز عليها السيناريو، والذي تم نسجه ببراعة حول أم وطفلها الذي يعاني من اضطرابات نفسية (ما يسمى الإفراط في الحركة).
إن اختيار دولان لعنوان بسيط وعاطفي مثل "مامي" يحمل في طياته عمق العلاقة التي يستكشفها الفيلم. فالأم، أرملة في الأربعين من العمر، تعاني ضائقة مالية بسبب عدم إتمام تعليمها وانشغالها بزواجها من عبقري توفي، ليست مجرد شخصية، بل هي محور الكون بالنسبة لابنها، حتى في خضم الفوضى والعنف. الابن شاب صاحب إعاقة، وهو (مرض قصور الانتباه وزيادة في النشاط) - وبسببها تخلف عن الدراسة ودخوله المصحات، حيث يرفضه المجتمع والمؤسسات التعليمية. هنا تختار الأم، بدافع حبها وإرهاقها ويأسها المتزايد، الاعتناء به بنفسها، وتؤازره في جميع نزواته وأزماته.
أصبح الشاب متهمًا لأنه أحرق مقهى المصحة، واحترق أحد النزلاء، فقامت الأم باستلامه، وينتقلون إلى منزل جديد يناسب حالتهم المادية الهشة، وتبدأ رحلة المعاناة من ابن لا يدرك إلا القليل، مع عنف لفظي وجسدي يوجهه نحو أقرب الناس إليه.
في خضم هذه المعاناة، تتدخل إحدى الجارات لعلاج الطفل الشاب في إحدى المشاجرات. هذه الجارة، مدرسة في الأصل تعاني هي الأخرى من صعوبات تتمثل في صعوبة النطق، تمثل تجسيدًا لاستعارة "استناد الحوائط المتهالكة بعضها على بعض". إنهم يجدون القوة في دعم بعضهم البعض. فنجد أن الشاب استجاب للمدرسة بعد مشادة عنيفة أظهرت له قوتها، فرضخ لها، وبدأت هي في تعليمه، وتفرغت الأم للعمل كعاملة نظافة. والمدرسة أيضًا أصبح النطق عندها أقرب إلى العادي، لأنهم حولوا ضعفهم الداخلي وقوتهم الخارجية إلى ضعف خارجي وقوة داخلية بعد التقارب النفسي والمعنوي معًا.
ولكن بعد فترة، رأت الأم، تحت وطأة الإرهاق واليأس، إيداع الطفل المصحة تنفيذًا للبند 14 س، بحثًا عن راحة لم تعد تجدها. ولكن هذا الانفصال يعود بالولد أكثر شراسة، وتعاود المدرسة صعوبة النطق، مما يؤكد على أهمية الاستقرار العاطفي والروابط الإنسانية.
الفيلم لمخرج أحب ممثليه، فترك لهم العنان في التعبير عن ذواتهم دون قيود، وأظن أنه أعاد تصوير المشاهد عدة مرات حتى يأخذ منهم المشاعر الإنسانية الحقيقية الطازجة كبشر وليس تمثيلاً، وتجدها دومًا في لحظات البكاء أو الضحك النابع من القلب. أسلوب الإخراج يركز على الإنسان لا الصورة فقط.
الفيلم صرخة في وجه المجتمع الذي لا يرى إلا من خلال قوانين فقط، دون النظر للحالات الإنسانية، ودون الاعتبار للمشاعر والأحاسيس، وكأن القوانين جعلت لقَوْلَبَة الإنسان داخل نصوص القانون الصماء.
الفيلم يعتبر نوعًا من المونو دراما، حيث أن الشخوص ثلاثة فقط معظم الوقت، مما يعزز من التركيز على العلاقات الإنسانية المعقدة والصراعات الداخلية. فيلم رائع إذا أردت المشاهدة من خلال قلبك ومشاعرك كإنسان وليس متفرجًا عاديًا. إنه يلامس قضايا واقعية في كندا وغيرها من الدول. الفيلم إخراج الشاب كزافييه دولان (25 سنة فقط)، وهو ما يجعله إنجازًا استثنائيًا، وقد كان هذا الفيلم بمثابة نقطة انطلاق قوية لمسيرته السينمائية. فيلم به من الفن الإنساني الخالص بعيدًا عن الصورة النمطية للأم والقوانين والدولة، فيلم يدعو للدفء الإنساني وليس برود العلاقات الإنسانية القائمة على تنفيذ القوانين. فيلم يتمرد على كافة الفنون حتى السينمائية، لأنه يركز على الإنسان وليس على الصورة الظاهرة وفقط. والأبطال الثلاثة والمخرج والسيناريست كانوا مبدعين جدًا لإيصال الرسالة المراد إرسالها للجمهور عبر شريط من الفن الطازج وليس المعلب أو السابق التجهيز. الجمهور المستهدف هو كل من يهتم بفهم تعقيدات العلاقات الإنسانية والتحديات الاجتماعية.
بطولة: آن دورفال (الأم) أوليفييه بيلون (الابن) سوزان كليمنت (الجارة)
الفيلم الحائز جائزة لجنة التحكيم الخاصة لأصغر مخرج في المسابقة، وقد أخذها مناصفة مع جان لوك غودار عن فيلمه "وداعًا للغة".
ما هو الشعور أو السؤال الذي تركه الفيلم بداخلك بعد مشاهدته؟