تحليل استراتيجية التيار العلماني والحداثي في
الجدل الديني
كما كان متوقعًا، يجد التيار العلماني والحداثي نفسه عاجزًا عن الجهر بمراده الحقيقي وأقصى طموحاته، ألا وهي علمنة المجتمع بشكل كامل، وتطبيق الفلسفات الغربية الحديثة وما بعدها، والتي قد تتعارض جذريًا مع الهوية الثقافية والدينية الراسخة للمجتمع. لهذا السبب، يفضل هذا التيار التخفي خلف أقنعة براقة وخطابات جذابة تحمل مصطلحات مثل "الثقافة"، "التحديث"، و"التنوير"، بينما يتصرف في الخفاء بخفة محسوبة وذكاء تكتيكي ليمرر أجندته شيئًا فشيئًا.
في خطوة لم تكن مفاجئة لمن يراقب المشهد، تم الدفع بالشخصية المثيرة للجدل، إسلام بحيري، ليُحدث ما يشبه الفوضى الفكرية في الفضائيات. لقد تجاوز بحيري خطوطًا حمراء لم يجرؤ أحد قبله على الاقتراب منها، متمثلًا في التطاول على مكانة الأئمة الأربعة الكبار الذين يمثلون أعمدة الفقه الإسلامي، وبالأخص الإمام البخاري الذي يُعد مرجعية للسنة النبوية، بل وتجاوز ذلك ليخوض في نصوص القرآن الكريم نفسه، مثيرًا الشكوك والجدل حول قضايا أساسية في الدين. كانت هذه "الأحجار المسمومة" تهدف، في نظرك، إلى إحداث شرخ عميق في الثوابت الدينية الراسخة في وجدان الأمة.
وعندما انتهى "الكائن" إسلام بحيري من مهمته، وألقى بأحجاره التي أحدثت ضجة واسعة، ظهر التيار العلماني والحداثي بوجوه أخرى، في ما يبدو أنه لم يكن سوى نوع من توزيع الأدوار المدروس بعناية فائقة.
ها هو الدكتور يوسف زيدان، الكاتب والروائي المعروف، يصف إسلام بحيري - كما جاء في صحيفة الوفد - خلال استضافته ببرنامج "القاهرة اليوم" على يد الإعلامية رانيا بدوي والإعلامي عمرو أديب. شن زيدان هجومًا حادًا على بحيري، مشبهًا إياه بـ"الطفل الممسك بالسكين معتقدًا أنه يحارب ديناصورًا يتخيله في عقله". لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وصف "زيدان" ما يفعله البحيري بادعاء البطولة الزائفة وإشغال الرأي العام، واصفًا ما يحدث بالهرج والهوجة. شدد "زيدان" في حديثه على تفاهة التقاط كلمة صادمة من التراث وصدم الناس بها، خاصة في الوقت الذي يواجه فيه المجتمع مآزق حقيقية لا حصر لها، مثل تحديات بناء العاصمة الإدارية الجديدة ومعضلة مشكلة الكهرباء. من منظورك، يبدو وكأن قضايا الوعي والهوية الوطنية والدينية لا تُعد مأزقًا حقيقيًا يستحق المعالجة الجادة أو حتى الاهتمام الجماهيري، بل يجب أن يُصرف عنها الانتباه تمامًا نحو القضايا المادية الملموسة.
وفي مشهد آخر من هذا التوزيع المزعوم للأدوار، يظهر خالد صلاح، رئيس تحرير جريدة اليوم السابع (والتي تعتبرها جريدة ذات توجه علماني)، ليقول علنًا: "إن طريقة الضرب في ثوابت الدين باطلة، لافتًا إلى أن مهاجمي كتب التراث يساعدون الإلحاد والفجور." وأضاف صلاح – خلال تقديمه لبرنامج «آخر النهار» المذاع على فضائية «النهار»- أن "دون القيم الدينية المجتمع هيفك للآخر". واستطرد الإعلامي متسائلًا: "هل انشغالنا بمواجهة تيار إسلامي متطرف أبعدتنا عن القيم التي من الضروري تواجدها بالمجتمع؟" إن هذا التلون في الخطاب الإعلامي، الذي قد يبدو وكأنه يلامس مخاوف الشعب من الإلحاد أو الفجور، ليس إلا جزءًا من لعبة أكبر تهدف إلى السيطرة على الوعي الجمعي. فبينما يتم مهاجمة المتطرفين ظاهريًا، يتم في الوقت ذاته التغاضي عن الجذور العميقة للهجوم على الثوابت ذاتها، مما يفتح الباب لتفكك أعمق.
كما قلنا سابقًا وبكل وضوح، إنها الأدوار الموزعة بعناية ودهاء؛ هدفها الأول هو شغل الرأي العام وإلهائه عن القضايا الجوهرية التي تمس حياته اليومية ومستقبله الحقيقي. أما الهدف الأعمق فهو ترسيخ فكر العلمانية خطوة بخطوة، وهدم كافة الثوابت الدينية والأخلاقية والاجتماعية في عقل ووجدان الشعب المصري. وهذا يتم لتحقيق غاية أساسية: أن تتسيد النخبة أكثر فأكثر على مقدرات الشعب ومستقبله، وهي النخبة التي تراها أنت فاسدة ومفسدة، تستفيد من هذا التفكيك الفكري والقيمي لتعزيز سيطرتها وتأمين مصالحها الخاصة على حساب الأمة.
إن الوعي بهذه الأدوار الخفية والخطط الممنهجة هو خط الدفاع الأول والحصن المنيع ضد محاولات تفكيك نسيج المجتمع، وصونًا لهويته الراسخة، وحماية لمستقبله من أن يتم التلاعب به لأهداف لا تخدم إلا فئة معينة.