Transcendence:
سيمفونية بصرية وفكرية تُجسد صراع الإنسان والآلة في رحلة البحث عن الوعي والإلوهية
شاهدت فيلم Transcendence - تسامي - (تَسَامَى عَنْ فِعْلِ مَا لاَ يَلِيقُ بِمَكَانِهِ : تَعَالَى)، بطولة جوني ديب وريبيكا هول، إخراج والي فيستر، وكتابة والي فيستر وجاك باجلين. الموسيقى من تأليف: Mychael Danna.
الفيلم يدور في فلك صراع فلسفي وعلمي مُثير للاهتمام، يتمحور حول مستقبل العلاقة بين الإنسان والآلة. يطرح الفيلم تساؤلات وجودية عميقة حول حدود الإدراك، طبيعة الوعي، ومفهوم الإلوهية في عصر التقنيات المتقدمة. نشاهد هنا مواجهة حادة بين رؤيتين مُختلفتين لمستقبل البشرية: الأولى ترى في دمج العقل البشري مع الذكاء الاصطناعي حلًا لكل المشكلات وتطورًا حتميًا قد يرقى بالإنسان إلى مرتبة "الرب"، بينما تُحذر الثانية من فقدان الإنسانية وقيمها الأصيلة في خضم هذا الاندماج التكنولوجي، مُؤكدة على أهمية الحفاظ على الجانب الإنساني بكل ما يحمله من مشاعر وأحاسيس مُتنوعة.
يُحسب هذا الفيلم لصُناعه، وعلى رأسهم المخرج القدير والي فيستر، الذي استطاع ببراعة فائقة أن ينسج خيوطًا مُتعددة من الفن ليخدم قصة الفيلم المُعقدة. لم يلجأ فيستر إلى الإبهار البصري المُفرط، بل استخدم كل أداة فنية بتوازن مُحكم، بدءًا من اختيار أماكن التصوير الخلابة التي تُضفي على الفيلم جمالية بصرية آسرة، مرورًا بالديكورات المُتقنة التي تُساهم في خلق جو الفيلم وتصديق أحداثه، وصولًا إلى الموسيقى التصويرية الساحرة التي أبدعها Mychael Danna. لقد كانت الموسيقى بحق أحد الأبطال الرئيسيين في الفيلم، حيث استطاعت أن تُعبر عن المشاعر الداخلية للشخصيات وتُعمق من تأثير المشاهد على المُشاهد.
يستحق الكاتبان والي فيستر وجاك باجلين إشادة خاصة على جهودهما في تناول هذا الموضوع العلمي الشائك. لقد نجحا في تقديم كم هائل من المعلومات العلمية والتقنية على لسان الأبطال بسلاسة ووضوح مُذهلين، دون أن يشعر المُشاهد بأي نوع من الحشو أو التكلف. لقد تم دمج هذه المعلومات ببراعة فائقة في نسيج الدراما، مما جعل الحوارات مُثيرة للاهتمام ومُقنعة.
أما بالنسبة للتصوير السينمائي، فقد كان له دور محوري في نقل رؤية الفيلم. كانت اللقطات الواسعة التي تم تصويرها في الأماكن المفتوحة بمثابة دعوة بصرية للاستمتاع بجمال العالم الطبيعي، ربما كتذكير بما قد نفقده في عالم مُسيطر عليه بالكامل من قِبل الآلة. وعلى الجانب الآخر، كانت اللقطات المُقربة، وخاصة تلك التي ركزت على تفاصيل دقيقة مثل تساقط قطرات الماء، تحمل رمزية عميقة. فتساقط الماء وانفصال قطراته قد يُفسر على أنه رمز لانفصال الوعي الفردي أو ربما رمز لأصل الحياة نفسه. كما أن استخدام اللقطات البطيئة في بعض المشاهد أضفى عليها جمالًا خاصًا وعمقًا في التعبير.
بالانتقال إلى الأداء التمثيلي، يقف جوني ديب كقامة فنية لا يمكن وصفها بالكلمات العابرة. لقد استطاع هذا العبقري أن يتفهم أبعاد شخصيته بدقة مُذهلة، وأن يُقدم انفعالات دقيقة وصادقة لدرجة تجعلك تشعر وكأنه لا يُمثل، بل يعيش الشخصية بكل جوارحه. والأكثر إثارة للإعجاب في أدائه في هذا الفيلم هو قبوله بأن يموت في الثلث الأول من الأحداث، وأن يظهر بشكل مُتقطع بعد ذلك في صورة رقمية. هذا "الإنكار للذات" الفني يُؤكد على أن الأهم بالنسبة له هو تأثير الشخصية والفكرة التي يحملها، وليس مجرد الظهور على الشاشة. هذا الفيلم يُحسب له كنقطة بارزة في مسيرته الفنية.
أما ريبيكا هول، فقد واجهت تحديًا كبيرًا بالوقوف أمام عملاق تمثيلي بحجم جوني ديب وفي تناول موضوع فكري وعلمي بهذا العمق. إلا أنها استطاعت أن تكون على قدر المسؤولية المُلقاة على عاتقها، حيث قدمت أداءً قويًا ومُقنعًا، ونجحت في التفاعل مع شخصية ديب بشكل طبيعي جدًا، خاصة في تجسيد الانفعالات الداخلية التي لم تكن تحتاج إلى كلمات لتظهر، بل كانت تتبدى في نظرات عينيها المُعبّرة، أو في الضغط على ألفاظها، أو في دموعها الصادقة. لقد كانت مُباراة تمثيلية مُمتعة بحق.
على صعيد الملاحظات السلبية، أرى أن تصوير الفيلم للمحافظين الجدد وكأنهم يسعون للخير للبشرية ويتزعمون مُحاربة بحوث الذكاء الاصطناعي هو أمر مُنافي للحقيقة التاريخية. هذه الفئة السياسية، التي برزت بشكل كبير مع رئاسة رونالد ريغان وكان لها أوج نفوذها خلال فترة حكم جورج بوش الابن، تُعتبر من بين أكثر القوى السياسية تأثيرًا في نشر الحروب والتدخلات العسكرية، وكان لها سجل حافل بالقرارات التي لا تصب في مصلحة السلام العالمي أو التقدم الإنساني الحقيقي. تصويرهم في الفيلم كقوة مُدافعة عن القيم الإنسانية في مواجهة التقدم التكنولوجي يبدو وكأنه تجميل لصورة تاريخية مُختلفة تمامًا.
في الختام، أُؤكد على أن فيلم "Transcendence" هو عمل سينمائي يستحق الاقتناء والمُشاهدة المُتكررة، لما يحمله من أفكار عميقة ورؤية فنية مُتميزة. هكذا تكون السينما الحقيقية التي تُثير العقل والوجدان وتدفعنا للتفكير في مستقبلنا ومصيرنا كبشر في عالم يتسارع فيه التقدم التكنولوجي بشكل غير مسبوق.