"سونيا والمجنون"... تحليل متكامل لعمق الفاجعة

 

"سونيا والمجنون"... تحليل متكامل لعمق الفاجعة

من دوستويفسكي إلى الوعي العربي… حين يصبح العمى اختيارًا

✍️ بقلم: محسن عباس




🌒 مقدّمة: حين يتحوّل الأدب إلى مرآة للروح

من رواية «الجريمة والعقاب» لدوستويفسكي، انبثقت واحدة من أجرأ التجارب السينمائية العربية التي حاولت أن تنقل السؤال الأبدي:
هل يمكن تبرير الجريمة إذا كان الدافع نبيلاً؟

"سونيا والمجنون" ليس مجرد فيلم، بل مرآة دامية لروحٍ ممزقة بين الفكر والواقع، بين الخطيئة والغفران، بين الله والإنسان.
ولأن السينما المصرية في سبعينياتها كانت جريئة في اقتحام الأسئلة المحرمة، جاء هذا العمل ليكشف هشاشة البنية الأخلاقية في مجتمعٍ يعيش ازدواجيته بين الفضيلة المعلنة والرغبة المكبوتة.

ومن هنا تبدأ قراءتنا النقدية: لا من زاوية الحكاية، بل من عمق الفاجعة الإنسانية التي جعلت الجميع مجرمين بطريقةٍ أو بأخرى.


🩸 القسم الأول: سقوط الأب وقتل البراءة

(العمق الفلسفي والأخلاقي)

المجرم الحقيقي في «سونيا والمجنون» ليس القاتل الذي ضغط الزناد، بل الأب الذي أغمض عينيه عن الحقيقة وتواطأ بصمته على الجريمة.
أنانيته كانت الجريمة الأولى، وصمته كان الجرح الذي نزفت منه كل الأرواح اللاحقة.

فالأب لم يكن شريرًا، لكنه كان أضعف من أن يكون نبيلاً.
ومن رحم هذا الضعف وُلدت الكارثة.

🔹 المحبّ الغبي الذي قتل من أجل محبوبته لم يكن سوى ضحيةٍ لمجتمعٍ
يربّي أبناءه على الخوف لا على الفهم، على الكبت لا على الوعي، وعلى الطاعة لا على المساءلة.

إن فقر الفكر أخطر من فقر الجيب، فهو الذي يهيّئ الأرض لسقوط الروح قبل الجسد.
وحين تُقتل الروح، يصبح كل حرامٍ سهلاً.

كل الشخصيات في الفيلم كائنات تائهة في غابة بشرية، يشتكي فيها الجميع من الجميع، لأن الجميع صار أعمى.


🎬 القسم الثاني: براعة الإخراج واللغة السينمائية

شكل الفيلم تحدياً كبيراً للمخرج حسام الدين مصطفى، الذي نجح في خلق لغة بصرية توازي الثقل النفسي للقصة، معتمداً على عناصر فنية أبدعت في بناء الجو العام:

🔹 السيناريو والاقتباس (صبري موسى):
الإبداع الحقيقي للسيناريو يكمن في قدرته على توطين الصراع الفلسفي الغربي في بيئة مصرية، وجعل السؤال الوجودي عن الجريمة ملموساً اجتماعياً. رغم الانتقاد لاختزال الجزء الفلسفي، نجح السيناريو في الحفاظ على خطوط القصة الرئيسية وتعقيد الشخصيات.

🔹 الإضاءة والتصوير:
اعتمد الفيلم على الإضاءة الكونتراستية لخلق جو من الكآبة والتوتر النفسي. كان استخدام الظلال والأماكن المظلمة جزءاً أصيلاً في تصوير "الغابة البشرية" والضيق النفسي لمختار. الإضاءة لم تكن مجرد تقنية، بل أداة لتجسيد الحالة النفسية والانعزال والذنب.

🔹 الموسيقى التصويرية:
لعبت الموسيقى دوراً جوهرياً في تصعيد التوتر، حيث كانت الألحان المصاحبة لأزمات مختار النفسية أشبه بصوت الضمير الذي يطارده، مما عزز الإحساس بالهوس والاقتراب من الجنون، وساعد على نقل العمق الوجودي حتى في غياب الحوار الفلسفي المباشر.


🎭 القسم الثالث: جماليات الأداء الفني وذروة الإبداع التمثيلي

تتكامل البراعة الإخراجية مع الإبداع المنقطع النظير لنجوم الفيلم، الذين لم يقدموا رموزاً جامدة، بل أرواحاً مضطربة:

  1. محمود ياسين (مختار / المجنون) – تمثيل الفلسفة
    قدّم مزيجًا نادرًا من التعالي الفكري والجنون الوجودي. جسّد صراع "الإنسان المتفوق" الذي يرى نفسه أهلاً لكسر القوانين من أجل هدف أسمى، ليتحول تدريجيًا إلى كائن مهزوم أمام عاطفته وذنبه. أداؤه لم يكن تمثيلاً لجنون بسيط، بل بنية معقدة للفكر الذي ينهار. ورغم ذلك، اختزل الإخراج جزءاً من هذا الصراع الفلسفي ليبرر الجريمة اجتماعياً، مما أضعف السؤال الوجودي الأصلي.

  2. عماد حمدي (الأب الساقط) – الإبداع في الضعف
    أعاد تعريف الجريمة باعتبارها ضعفًا لا شرًّا مطلقًا. أبدع في منح الشخصية تراجيديا داخلية صامتة، تنبع من هدوء مرير، مما جعل الأب مرآة للانهيار الجمعي، لكنه يفتح نقاشًا فلسفيًا حول حدود الذنب الأبوي ومسؤولية الفرد.

  3. نجلاء فتحي (سونيا / البراءة المضحية) – الإخلاص الروحي
    أدت دور سونيا برقة حزينة مشبعة بالقوة الروحية. لم تكن مجرد ضحية، بل رمز الخلاص والمنقذ الروحي وسط الوحل، ووجه إنساني طاهر قادر على الغفران.

  4. نور الشريف (سيف / الصديق الواعي) – الإضافة التحليلية
    جسّد صوت الوعي في زمن العمى، العين الناقدة والمحللة للأحداث، مع بعد فلسفي واضح. لكن إضافات إخراجية خففت من عمق الشخصية، فبدت أحيانًا أقل من رمزها الفلسفي الذي أراده النص.


🔚 خاتمة المقال: تعميق السؤال الفلسفي وضعف الخاتمة

رغم تميّز الأداءات وفنية الإخراج، اختصر الفيلم جانبًا من التساؤل الفلسفي حول نظرية "الإنسان المتفوق".
النهاية – جملة "ربنا موجود" – قدمت إجابة أخلاقية جاهزة، بينما الرواية كانت تتطلب مواجهة الذات.

يبقى «سونيا والمجنون» مرآةً لمجتمعٍ يهرب من مواجهة نفسه، يُداري ضعفه بشعارات أخلاقية جوفاء، ويعيش في غابة من العيون المغمضة.
وبفضل الأداءات الرائعة وفنية الإخراج، تظل صرخة المجنون في النهاية ليست صرخة فرد، بل صرخة مجتمعٍ فقد وعيه بعد أن اختار العمى بنفسه.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.