🕯️ الابن الذي لم يولد بعد

 

🕯️ الابن الذي لم يولد بعد

✍️ بقلم: محسن عباس




لم يكن سامي يعرف متى بدأ يفقد صوته.
ربما منذ اللحظة التي كان فيها والده يجيب بالنيابة عنه أمام الناس،
أو حين كان يُمنع من الخطأ بدلاً من أن يُعلَّم كيف يُصلِحه.

كبر في بيتٍ نظيفٍ ومنضبطٍ، لكن بلا نوافذ.
كانت كل الأشياء فيه تشبه النظام العسكري: الصحوة، المواعيد، الزيّ، والكلمات المسموح بها.
كان يتعلم أن المثالية هي القناع الوحيد القابل للعيش.

وحين رحل الأب، لم يشعر سامي بالتحرر بقدر ما شعر بالضياع.
كان المنزل لا يزال نظيفًا ومنضبطًا، لكن الصمت فيه لم يكن سلامًا، بل فراغًا مدويًا.
بقي ينتظر في كل صباح الأمر بالصحوة، فخاف من الحرية التي لم يعرف كيف يعيشها.

وبنى سامي حياته كصورةٍ طبق الأصل من الأمان المفقود.
تزوج الزوجة “المناسبة”، وأنجب ثلاث بنات.
كان يمارس الأبوة بنظام الأب: العطاء المقنَّن والمثالي أمام الجميع.
عطاؤه لم يكن حبًا بقدر ما هو حرصٌ على الحفاظ على الغطاء المثالي،
خائفًا أن يتشوه القناع الذي يرتديه.
في نظر الجميع، كان سامي مثالًا للنجاح والأخلاق،
لكن أحدًا لم يدرك أن هذه المثالية كانت نفاقًا مكتسبًا؛
غطاءً لشخصٍ آخر محطم لم يُسمح له بالوجود.

لكن في داخله، كانت المراهقة المكبوتة تصرخ،
فوجدت متنفسها في الظل الرقمي.
في منتصف الليل، بعد أن يتأكد من صمت البيت، كان يتسلل إلى مكتبه.
هناك، عبر شاشاتٍ مضيئة، كان يجد لغة الشوارع التي حُرم منها؛
يجد الحرية في نطق الألفاظ النابية والشتائم التي لم يجرؤ يومًا على همسها في الواقع.

كان يستمتع بمشاهدة سيداتٍ يظهرن في ملابس داخليةٍ صارخة أو عارياتٍ تمامًا،
رغباتٌ لم يطلبها من زوجته – التي كانت متاحةً له بحبٍّ هادئ –
بل كان يفضل هذا الإغراء السطحي والمنظَّم عبر الشاشة،
لأنه كان يمثل النقيض المطلق لـ "الزيّ المنضبط" الذي فرضه عليه الأب.
ذلك العالم كان انتقامًا عاريًا لشخصيته المكبوتة.

وفي إحدى الليالي، بينما كان سامي منغمسًا في ظله السري،
عارياً تمامًا، يتحدث بالصوت الذي سُرق منه،
انفتح باب مكتبه فجأة.

دخلت ابنته الشابة، التي أتت تبحث عن شيءٍ ما.
تجمّدت في مكانها، شاهدةً الصورة الكاملة لانهيار الأب:
جسدٌ عارٍ على الشاشة، ووجهٌ مغمورٌ في ضوء الكمبيوتر،
يتحدث بكلماتٍ لا تتفق أبدًا مع الأب “العاقل”.

صرخت الابنة صرخةً عنيفة مزقت صمت الليل،
وكسرت جدران الانضباط الهشة في البيت.
تلك الصرخة لم توقظ الزوجة والبنات الأخريات فحسب،
بل حطمت التمثال المثالي الذي بناه سامي لنفسه أمام أولاده.

بعد أن هدأ الهرج، جلس سامي أمام مرآته طويلاً.
نظر إلى وجهه وقال بصوتٍ مبحوح، ممزوجٍ بالخزي والألم:
«أين أنا؟»
فلم يجبه أحد.
سمع فقط صدى الأب العالق في رأسه:
«كن عاقلاً، لا تُخطئ، لا ترفع صوتك، لا تخرج عن الصف.»

عندها أدرك الحقيقة البسيطة والمخيفة:
أن الوجه الذي يحدق فيه الآن ليس وجهه.
كان مزيجًا من تجاعيد القلق التي ورثها عن الأب
وابتسامة الإذعان التي تدرب عليها.
أدرك أن القناع الذي حماه صغيرًا، سرقه كبيرًا،
وأنه بدوره قد أورث ظله القذر لابنته.

خرج في الصباح التالي بلا خطةٍ ولا هدف.
سار في الشوارع حتى ضاع.
شعر لأول مرة بالبرد والضجيج، لكن شيئًا في صدره كان دافئًا.

توقف أمام مرآة متجرٍ زجاجي، تأمّل وجهه طويلًا،
ثم ابتسم ابتسامةً غريبة — لا تشبه ابتسامات الأمس.
كانت تشبه وعدًا خافتًا... أو بدايةَ حلمٍ.

مدّ يده بهدوء، واشترى قلمًا أحمرَ حبره جريء.
لم يكن بحاجةٍ إليه، لكنه لونه الممنوع.
وبمجرد أن خرج من المتجر، مزّق إيصال الشراء،
ورماه في سلة المهملات بلامبالاة.
واصل السير في الشارع، وفي داخله دار صراعٌ مرير:

«أنا حقير... القناع راح خلاص...
مش بس قدام مراتي، قدام بنتي!
يا ربّي، إيه الأفعال الوسخة دي؟
طيب، والحل؟ لازم أرجع أصلح كل حاجة...
لازم أرجع لـ سامي المحترم بأي طريقة...
حتى هذا القلم الأحمر الغبي،
إيه فايدته؟ تمرد على الفاضي...
أنا جبان... أنا خايف أكون أبويا.»

وفي تلك اللحظة، أدرك سامي أنه لم يكن يعيش، بل كان يكرر حياةً موروثة.
لم يمت أبوه بعد، ولم يولد هو بعد.
ابتسم بهدوء، كأنما سمع بكاء طفلٍ بعيدٍ —
ربما كان صوته... يعود من جديد.

ولعلّ الولادة الثانية تبدأ حين نكسر المرايا.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.