سرّ الهروب الأخير

  سرّ الهروب الأخير

قصة قصيرة - بقلم محسن عباس




كان القصر الذي عاشت فيه أحلام يتنفّس.
لم تكن الهمسات الليلية مجرد توهّم؛ كانت الذبذبات التي تتسلل من الجدران تُغلق الأبواب قبل أن تلمسها، وتُطفئ المرايا أضواءها حين تمر أمامها.
شيء ما كان يراقبها… شيء أكبر من الاكتئاب، وأقرب إلى حضور غير مرئي.
والدها، رغم سلطته وثروته، كان يعيش كظل داخل ملكه.
لذلك حين سلّمها مازن—الرجل الأقرب للعائلة—شريحة نانوية مطوية في منديل وكتب لها:
"القصر ليس ملك أبيك… بل ملك من يراقبه."
…لم تشك لحظة في خطورة ما يجري.
في فجر هروبها، وبينما تختبئ في عربة قمامة تُبعدها عن حياتها القديمة، سقطت الشريحة دون أن تدري.
وأثناء ابتعاد العربة، رأت عين سهام—الحارسة الصارمة—تراقبها من نافذة القصر.
لم تكن نظرة مطاردة…
بل نظرة امرأة خائفة مثلها.
باريس لم تمنحها الحرية التي حلمت بها.
المدينة بدت كمرآة كبيرة تعكس مراقبتها لا أكثر.
وجوه تتكرر، خطوات تتزامن خلفها بانتظام مريب.
في أحد المقاهي الشعبية، ظهر مازن على الهاتف:
“الزفير مش كلمة… الزفير تجربة. والدك ضحية مش صانع.”
لكن قبل أن تسأله، جلست سهام أمامها فجأة.
لم تكن عدوة.
كانت منهارة.
سهام (بصوت متصدّع):
“رأيت والدك مربوطًا على جهاز يقيس زفيره.
هما بيجربوا حاجة… مشروع كبير… بيستخدموا تنفس البشر للسيطرة على الوعي.”
ثم قدمت لها شيئًا لم تتوقعه:
القلادة التي ترتديها دائماً.
لم تكن زينة.
كانت وحدة تخزين بيولوجية تسجّل نمط التنفس البشري.
وهنا فهمت أحلام الحقيقة:
القصر كله—غرفه، جدرانه، أجهزته—كان مختبراً لمشروع “الزفير”.
أما البشر فيه؟
لم يكونوا سكاناً…
بل عينات.
انضم مازن إليهما، وتحوّل الثلاثة إلى تحالف مضطر للهروب من الشبكة التي تحاصرهم.
لكن قبل أن يكملوا خطواتهم، اقتحم الحرس المكان.
كان الحرس يتحركون بتناغم مخيف، كل منهم يحمل جهازاً صغيراً على صدره يصدر نفس الذبذبات التي رأتها على والدها.
صرخ مازن:
“دول مش بشر طبيعيين… دول عينات تحت التجربة!”
وفي لحظة يأس، أغمضت أحلام عينيها.
وتذكّرت أول نفس حر تنفسته في باريس.
ليس الإيقاع المبرمج… بل إيقاع الإنسان الحر.
أطلقت زفيراً عميقاً مضطرباً…
فتشوهت ذبذبات الأجهزة فجأة، وارتبك الحرس وسقط بعضهم أرضًا.
ترددها الحر كسر نظام “الزفير”.
وبين الأنفاس المتقطعة، قال مازن:
“والدك اللي ساعدك تهربي… لأن زفيرك أنقى من كل العينات.”
هرب الثلاثة عبر ممر تهوية ضيق.
لكن أثناء الجري، تعثرت سهام على حقيبة مازن.
سقطت وفتحتها.
الصدمة؟
لم تجد سلاحاً…
ولا وثائق…
بل مسجل صوت صغير يعمل منذ الصباح، يسجل كل كلماتهم.
رفعت سهام نظرها ببطء.
كان وجه مازن جامداً، خائفاً من انكشاف أمر أكبر.
قالت سهام، بصوت مخنوق:
“إحنا كنا عينات النظام… ولا عيناتك أنت؟”
أحلام التفتت إليه.
كانت تنتظر إجابة.
لكنه لم يتكلم.
لم ينفِ… لم يعترف.
فقط نظر إليها بنظرة واحدة…
نظرة شخص يراقب تجربة وصلت إلى نهايتها.
أحلام شعرت بشيء غريب داخل صدرها…
ذبذبة غير مألوفة، ليست منها…
بل مزروعة.
مدّت يدها تتحسس رقبتها…
لتجد تحت الجلد شريحة دقيقة لم تكن تعرف بوجودها.
شريحة تتوافق فقط مع أجهزة “الزفير”.
نظرت لمازن الذي بقي ثابتاً…
وقال أخيراً:
“أحلام… أنتِ ما هربتيش من التجربة.
أنتِ التجربة نفسها.”
في تلك اللحظة، لم تعد تعرف:
هل كانت تهرب من النظام؟
أم تهرب إلى دورها الحقيقي الذي لم يخبرها به أحد؟
القصر لم يكن مختبراً فقط…
والدها لم يكن مجرد ضحية…
والحقيقة؟
مازن لم يكن مراقِباً…
كان المصمم الرئيسي للنظام.
وكانت هي…
المفتاح النهائي.
وهكذا، ولدت أحلام من جديد—
لا كحرة…
ولا كأسيرة…
بل كـ مصدر الزفير الذي يمكنه أن يحرر أو يدمر الجميع.
النهاية…
أم البداية؟
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.