لقاء لا ينتهي

 لقاء لا ينتهي

=======



حين غابت عني، شعرت أن الكون كله انسحب من حولي، كأن السماء أغلقت أبوابها فجأة، وكأن الأرض تخلّت عني، تاركة إياي وحيدًا في بريةٍ لا نهاية لها. كان الغياب زلزالًا يخلخل جذور الروح، يمحو معالم الطمأنينة، ويفتح في القلب هوّة لا يُرى قرارها. لم يكن غيابًا عابرًا يمكن احتماله، بل كان غيابًا يحوّل الأيام إلى جمرٍ، والليالي إلى دهاليز مظلمة.
بدأتُ أفتش عنها في الوجوه، في العيون تحديدًا. كل عينٍ مرّت بي كانت امتحانًا قاسيًا: هل سألمح فيها ظلها، بريق ابتسامتها، أو ذلك الحزن الجميل الذي كان يسكن عينيها؟ كنت أبحث حتى في نظرات الغرباء الذين لا أعرف أسماءهم، لعلّ القدر يرسل لي صدفة تُشبهها. لكن العيون جميعها صارت مرايا باردة، لا تعكس سوى غربتي. سألت نفسي بمرارة: كيف يعجز العالم عن أن يحتفظ بأثرها؟ أليست الأحبّة يتركون في العيون بصمات لا تزول؟ لكنني وجدتني كمن يطارد وهمًا، يمدّ يده في الظل ولا يجد شيئًا.
حين يئست من العيون، اتجهت إلى القلوب. ظننت أن القلوب أوسع من العيون، وأنها أقدر على حمل الذكرى. فتشت في أصوات العابرين، في ارتعاشة جملة، في حنين لحنٍ قديم، في دفء كلمة صدرت بلا قصد. حاولت أن ألتقط همسًا يوصلني إليها، لكنني لم أجد سوى جدرانٍ صماء. القلوب التي مررت بها بدت حجارةً مطفأة، لا تعرف أن تحتفظ بنورٍ مرّ بها يومًا. وهكذا، غدوت غريبًا حتى بين الناس، أتنقّل في زحامهم، لكنني وحيد كأني في صحراء ممتدة بلا ماء ولا ظل.
حين لم أجدها في العيون ولا القلوب، لم يبقَ لي سوى أن أناديها من داخلي. ناديت باسمها كما ينادي الظمآن سراب الماء. رددته في الليل حين أسندت رأسي إلى وسادةٍ باردة، رددته مع الريح وهي تلامس وجهي، مع أوراق الشجر حين تتساقط، مع الموج وهو يتكسر على الشاطئ ثم يعود. قلت لها: "أين أنتِ؟ أما آن لرحلتك أن تنتهي؟" لكن الصدى وحده عاد إليّ، صدى قاسٍ يجلدني بدل أن يواسيني. عندها أيقنت أن الغياب أقسى من الموت، فالموت له نهاية يُعلن عنها، أما الغياب فموتٌ بلا جنائز، تيهٌ بلا خريطة.
كلما مرّ يوم دونها، شعرت أنني أموت موتًا صغيرًا. موت لا يدوّن في سجلات، ولا يبكيه الناس، لكنه ينهشني من الداخل في صمت. ومع كل موتٍ صغير، كنت أتفتت أكثر، وأعود إلى نفسي أقل. لم يبقَ لي سوى طريق واحد: باب السماء.
دخلت إلى الصلاة منكسرًا، أجرّ خيبتي كما يجرّ الغريب حقيبته القديمة. حين كبّرتُ، سال دمعي قبل أن تتحرك شفتاي. ركعتُ، وسجدتُ، وهمستُ باسمها في دعائي، كأن اسمها جزء من تسبيحي. دعوت لها قبل أن أدعو لنفسي: أن يحفظها الله حيث هي، أن يفتح لها أبواب الخير والسكينة، أن يجعل قلبها مطمئنًا ولو لم يعد يومًا إلى جواري. كان بكائي يتساقط على الأرض التي أسجد عليها، حتى خُيّل إلي أن الأرض نفسها تتلقى دموعي كما تتلقى المطر. كنت أشعر أن كل سجدة تقترب بي منها، وأن كل دمعة تكتب لي خطوة على جسرٍ غير منظور يصلني إليها.
وحين رفعت رأسي من السجود، أحسست بطمأنينة عجيبة، كأن الغياب كله ذاب في حضرة الرحمة الإلهية. أدركت أن الحب لا يموت، بل يتسع ويتحوّل. وإذا عجز الجسد عن اللقاء، فإن الأرواح تعرف كيف تلتقي في فضاء الدعاء. هناك، في لحظة الانكسار تلك، أيقنت أن بيني وبينها جسرًا لا يمكن أن ينهار: جسر الدعاء.
فإن لم تجمعنا الأرض يومًا، فالسماوات أرحب وأعدل. وإن لم تسمح الحياة بلقاءٍ جديد، فالله الذي جمع الأرواح قبل أن تُخلق الأجساد، قادر أن يجمعها من جديد حيث لا غياب ولا فراق. خرجت من صلاتي مثقلًا بجرح، لكنه جرح يضيء من داخله. شعرت أنني وجدت الطريق إليها، لا في العيون ولا في القلوب، بل في رحاب عرش الرحمن، حيث لا تضيع الأسماء، ولا يضيع الحب إذا صعد صادقًا.
هكذا صار غيابها طريقًا آخر للقاء. لقاء لا تصنعه الأقدار الأرضية، بل يكتبه الله في صحائف الغيب. وكلما دعوت لها، شعرت أنني أقترب، خطوة بعد خطوة، حتى لو لم تلتقِ دروبنا أبدًا. ذلك أن الحب حين يُرفع إلى السماء، لا يعود رهينة الغياب، بل يصبح وعدًا أبديًا، لقاءً لا ينتهي.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.