من الجيتو إلى الاستبداد: حين يتحوّل حلم المواطنة إلى صراع هويات

من الجيتو إلى الاستبداد:

 حين يتحوّل حلم المواطنة إلى صراع هويات

بقلم: محسن عباس



في عالمٍ تتكاثر فيه الجدران الرمزية أكثر من الجدران المادية، يصبح الإنسان محاصرًا بما لم يبنه بيديه، بل بما نسجه المجتمع من حدودٍ غير مرئية تُسيّج العقل قبل أن تُسيّج المكان. يعلن الجميع إيمانهم بالحرية، لكنهم يمارسون الاستبداد على أصغر دوائرهم، فيتحوّل حلم المواطنة — الذي كان مشروعًا للاندماج — إلى مسرح صراع هويّات مغلقة.

الجيتو الجديد: حين يختبئ كل فريق داخل يقينه

في زمنٍ صار قابلًا للتفكيك بلا نهاية، لم يعد الإنسان العربي يبحث عن وطنٍ جامع، بل عن ملاذٍ يحمي هويته، لا لكونه قويًا فيها، بل لأنه هشٌّ خارجها. لم تعد الفكرة بناء وطن يتسع للجميع، بل تكوين "جيتو" صغير يتسع لنسخةٍ واحدة من الذات.

الجيتو هنا ليس جدارًا من حجر، بل هو حالة ذهنية.
هو انكماش رمزي، وانغلاق معرفي، ورفض لمرور أي نسمة تأتي من الخارج.
من يقترب من هذا الجدار يتلقى الرفض، أو التكفير، أو الاتهام بالجهل، أو — في أفضل الأحوال — يُعامل كغبار لا يترك أثرًا، كأن وجوده مجرّد خطأ مطبعي في نص مكتوب مسبقًا.

حتى الجيتوهات "اللطيفة" تمارس عنفًا صامتًا: انتقاء الأصوات، تعقيم النقاش، وفرز المختلف كما تُفرز الشوائب من المعادن النفيسة. لكنها معادن مزيّفة، لأنها لا تحتمل حرارة الاختلاف.

العدوى العامة: لا أحد محصّن من فكرة امتلاك الحقيقة

المأساة أن هذا الانغلاق لم يعد حالة استثنائية، ولا سلوك تيار بعينه.
لقد أصبحت العدوى ثقافة شاملة.
على ضفّتَي الواقع — يسارًا أو يمينًا، ليبرالية أو دينية، ثورية أو محافظة — تجد العقلية نفسها:
الانغلاق ذاته، الثقة المطلقة ذاتها، والرغبة ذاتها في احتكار الصواب.

كل مجموعة ترى نفسها "الفرقة الناجية" التي تملك الحقيقة الأخيرة، بينما تُصوَّر المجموعات الأخرى كخطايا تاريخية يجب محوها أو إسكاتها. وهكذا يتحوّل الخلاف العادي إلى معركة وجودية، ويتحوّل النقاش إلى محكمة تفتيش تدور رحاها في الظلام.

هذه العقلية لا تقتل الحوار فحسب؛ إنها تقتل اللغة المشتركة.
تفرغ الكلمات من معناها.
تحوّل المفاهيم إلى قنابل دلالية.
وتحرم المجتمع من أي أرضية يقف عليها عقلٌ يريد البناء.

الثورة التي تخنق أبناءها: مفارقة القمع الداخلي

يرفع البعض رايات الثورة لكنهم يمارسون في داخلهم ما ثاروا عليه في الخارج.
تُرفع الشعارات ذاتها التي تتغنى بالتغيير، لكن في العمق تتأسس آليات إقصاء لا تقل فجاجة عن آليات السلطة القديمة.

الثورة الحقيقية لا تبدأ بالهتاف، بل بقبول الآخر المختلف.
فإذا لم نتعلّم كيف نتعايش مع التنوّع داخلنا، سنعيد إنتاج الاستبداد نفسه، لكن بوجه جديد ومعجم جديد.

إن كل مشروع إصلاحي مات، لم يمت لضعف بنيته، بل لأن أصحابه استهلكوا طاقتهم في معارك هوية، بدل معارك البناء.
تلك المفارقة المريرة هي التي تجعل الثورة — أي ثورة — تخنق أبناءها قبل أن تبلغ مرافئ النجاح.

الاستبداد الرمزي: سلطة الجيتو الداخلية

أخطر ما يصنعه الجيتو الهويّاتي ليس العزلة، بل السلطة التي يفرضها على أفراده.
هذه سلطة لا تحتاج إلى شرطة أو قوانين؛ يكفي ضغط الجماعة على الفرد ليختنق.

فالاعتراض يصبح خيانة، والسؤال يصبح تشكيكًا، والاختلاف يتحوّل إلى خروجٍ عن السرب.
هكذا يتحول الانتماء إلى قيد، والصمت إلى فضيلة.
ومتى صار الصمت هو الخيار الآمن الوحيد، ماتت الرغبة في الكلام ومات معها أي احتمال للمعرفة.

الاستبداد الرمزي أخطر من الاستبداد السياسي، لأنه يسيطر على الروح، لا على الجسد فقط؛ يقنع الإنسان بأن حريته عبء، وأن صمته حكمة.

الضفتان تتشابهان: استبداد بنَفَسَيْن

المشهد اليوم مخجل:
لا يمكن تمييز طرف عن آخر.
اللغة نفسها، العقلية نفسها، والخيال السياسي الضحل نفسه.
على جانبي الطيف، تتكرر الرغبة في إلغاء المختلف، وكأن الهوية لا تُثبت إلا حين تلغي غيرها.

ومع ذلك تبقى هناك تلك الأقلية القليلة التي تملك شجاعة مدّ الجسور.
هذا النوع من البشر نادر، لكنه موجود، وهم الذين يحمون المجتمع من السقوط الكامل في هاوية الطوائف الفكرية. هؤلاء لا يعيشون في الجيتو، بل فوقه.

القمع الداخلي أخطر من الخارجي

حين تصبح الثورة — أو أي مشروع تغيير — جوقةً تصفّق للأعلى صوتًا، تفقد روحها.
القمع الخارجي مفهوم ومباشر، أما القمع الداخلي فخادع، لأنه يرتدي أقنعة القيم والأخلاق والمبادئ.

إن أخطر ما يواجه أي محاولة للتغيير هو ذلك القمع الذي يمارسه أبناء الفكرة على بعضهم، حين يضيقون بالاختلاف الذي يفترض أن يكون وقودًا للتطور.
النجاح يبدأ حين ندرك أن الحقيقة ليست سلعة يملكها أحد، ولا عقيدة محكمة الإغلاق، بل هي مجال مفتوح للتأويل والبحث والمسؤولية.

الدائرة المغلقة: موت الحلم قبل أن يولد

نتيجة هذا الانغلاق الحتميّة هي موت الحوار.
وموت الحوار يعني موت التغيير.
فالثورة التي لا تتسع للجميع، تنتهي إلى استبداد جديد، مهما كان شعارها "الحرية".

وحين تُغلق الأبواب كلها، لن نجد أنفسنا فقط محرومين من الأمل، بل محرومين من أبسط ما يجعل الإنسان إنسانًا: القدرة على الكلام.

الخاتمة: إنقاذ ما تبقّى من الحلم

لا يحتاج الحلم بالوطن الكبير إلى شعارات جديدة، بل إلى فضاء يتسع للآخر المختلف.
التسامح ليس رفاهية أخلاقية، بل شرط وجودي لأي مجتمع يريد البقاء.
فما لم ندرك أن التنوع ثروة، وأن الاختلاف ضرورة، سنظل نسير في دائرة مغلقة، نلعن الاستبداد بصوتٍ مرتفع… بينما نصنعه بأيدينا في حياتنا اليومية.


التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.