حين تتسلل "إيجيبت" لتحلّ محل "مصر":

 حين تتسلل "إيجيبت" لتحلّ محل "مصر":

قراءة فلسفية في تحوّلات الذوق والعلاقات واللغة

بقلم: محسن عباس




مقدمة: المجتمع حين ينظر إلى نفسه من المرآة التي يصنعها الفن
حين تشاهد مجموعة من عروض الستاند-أب كوميدي — مثل علي قنديل، وعمر الجمل، ومينا نادر — تدرك أنك لا تتابع مجرد ترفيه، بل مرآة اجتماعية حادة تكشف تحوّلات تحدث تحت الجلد، ببطء، ولكن بيقين.
الفن هنا ليس مجرد ضحك؛ إنه جهاز مسح اجتماعي يعرض لك ما لا يجرؤ المجتمع نفسه على قوله صراحة: كيف تغيّرت مصر… وكيف تقدّمت “إيجيبت”.
“إيجيبت” ليست مجرد نطق أجنبي، بل نموذج حياة جديد يتسلّل ليفرض لغته، ذوقه، وإيقاعه.
ومع كل ضحكة نسمعها على المسرح، ينهار شيء قديم، ويولد شيء جديد.
أولًا: صعود “إيجيبت” وهزيمة “مصر”
هناك فرق بين “مصر” ككيان حضاري وثقافي يمتد في التاريخ، وبين “إيجيبت” التي تشبه نسخة رقمية منه، خفيفة، سريعة، بلا ذاكرة.
جيل كامل بات يعيش في “إيجيبت”، حيث:
الانتماء ضعيف
التاريخ خلفيّة ديكور
والهوية أشبه بفلتر إنستغرام يتغير كل أسبوع
الستاند-أب لا يخلق هذه الظاهرة… لكنه يفضحها.
في “إيجيبت” ليس مهمًا أن تفهم، يكفي أن “ترند”.
ليس مهمًا أن تحب، يكفي أن “تتسلى”.
وليس مهمًا أن تحفظ لبلدك تاريخًا، يكفي أن تحفظ “ميم” جديدًا.
ثانيًا: العلاقات الجديدة… لا عقد، لا التزامات، لا شكل واحد
الأمر الذي يتكرر في عروض الستاند-أب هو توصيف شكل العلاقات العاطفية والاجتماعية اليوم:
علاقة بلا اسم
بلا تعريف
بلا التزام
بلا خوف من النهاية
والكل “راضٍ” ضمنيًا لأن التوقعات هشة أصلاً
هذه العلاقات لا تتأسس على قيم مشتركة، بل على مؤقتيّة تعكس روح الزمن: كل شيء مؤقت، قابل للتجربة، قابل للاستبدال.
إنها علاقات يسكنها خوف عميق من الجدية… لأن الجدية تعني مسؤولية، والمجتمع الجديد مهووس بالهروب من أي عبء، حتى الحب نفسه.
ثالثًا: صعود الصوت النسائي… بين التحرر والاستحواذ
واحدة من أكبر العلامات التي رصدها الستاند-أب هي أن “الجنس الناعم” لم يعد ناعمًا.
نحن أمام جيل جديد من النساء يملكن الصوت الأعلى، القرار الأقوى، والتأثير الأكبر في تفاصيل الحياة اليومية.
هل هذا تحرر؟ نعم.
هل هو استحواذ؟ أحيانًا.
هل يعيد توزيع المراكز القديمة؟ بالتأكيد.
لكن الخطير ليس في القوة… بل في الخطاب:
خطاب يميل غالبًا للسخرية من الرجل، تقليل قيمته، أو وضعه في المرتبة الثانية.
وهذا يعكس تحوّلًا اجتماعيًا عميقًا:
لم تعد العلاقة تكاملًا… بل صراعًا على “الميكروفون”.
رابعًا: اللغة الساقطة أصبحت عادية… فهل هذا تدهور؟
اللغة التي كانت يومًا “عيب جدًا” صارت اليوم جزءًا من الكوميديا اليومية، ومن الحوار العادي بين الشباب.
التحريم القديم سقط، والجرأة اللغوية أصبحت معيار جودة.
هل هذا انحطاط؟
ربما.
لكن الأهم هو: لماذا حدث؟
اللغة لم تسقط من تلقاء نفسها…
اللغة سقطت عندما سقطت السلطة الأخلاقية في المجتمع، تلك السلطة التي كانت تصنع الخجل وتضع الخطوط الحمراء.
ومع غياب المرجعية، صار الفرد هو المرجع الوحيد، ومعه أصبحت اللغة مرآته الفجة.
خامسًا: ماذا نخسر… وماذا نكسب؟ قراءة في ثمن التحوّل
أولًا: ما الذي نخسره؟
اختفاء الحدود المشتركة للسلوك
انهيار مفهوم “العيب”
هشاشة العلاقات وقصر عمرها
تفكك الهوية الثقافية والتاريخية
صعود التهكم كبديل للحكمة
ثانيًا: وما الذي نكسبه؟
صراحة أكبر
قدرة أعلى على التعبير عن الذات
سقوط النفاق الاجتماعي القديم
تمكين فئات كانت مهمشة
خطاب نقدي يفتح أسئلة جديدة
المجتمع إذن لا ينهار ولا ينتصر…
هو يتحوّل.
خاتمة: ما بين الضحك والألم… مستقبل مجتمع يتغير
حين تضحك من كوميديان، أنت لا تضحك من مزحة، بل من حقيقة تعرفها جيدًا.
والضحك في مصر — أو في “إيجيبت” — ليس ترفيهًا، بل آلية دفاع ضد واقع يتغير بسرعة أكبر من قدرتنا على فهمه.
السؤال ليس:
هل ما نراه في الستاند-أب انهيار أم تطور؟
السؤال الحقيقي:
هل نملك قدرة على إعادة ترتيب هذا التحوّل بحيث نأخذ مكاسبه دون أن نُستنزف بخسائره؟
المجتمع لا يعود إلى الوراء…
لكنه يستطيع دائمًا أن يقرر إلى أين سيذهب بعد ذلك.
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.