🧠 صناعة التفاهة: كيف يُدار الوعي في زمن الضجيج

 

🧠 صناعة التفاهة: كيف يُدار الوعي في زمن الضجيج
✍️ بقلم: محسن عباس



🪞 المقدمة

صناعة التفاهة ليست عبثًا كما يظن البعض،
وليست هدفها التفاهة ذاتها.
إنها صناعةٌ دقيقة، لها أدواتها، ورجالها، وميزانياتها،
هدفها أن تزرع الفراغ في العقول،
وأن تُدير الوجدان كما تُدار ماكينة الإعلانات.

أبطالها ليسوا بالضرورة مشهورين،
ولا تلمع أسماؤهم على الشاشات،
لكنهم يتقنون اللعب في المساحات الرمادية بين الغباء والدهاء،
يصنعون من اللاشيء حدثًا،
ومن الحماقة قدوة،
ومن الانحطاط “ترندًا”.

إنها صناعة الأكاير،
الوجوه التي تتبدّل كما الأقنعة،
تعيش على تصفيق الحمقى،
وتتغذّى من انبهار السذج.

أما الجمهور المستهدف،
فهو الوقود الحقيقي لهذه الصناعة،
يضحك حين يُراد له أن يضحك،
ويغضب حين يُراد له أن يغضب،
ويستهلك ما يُقدَّم له دون سؤال.

صناعة التفاهة لا تنجح إلا بهم،
فهم شركاء في الجريمة دون أن يشعروا.


🎭 كيف تُدار العقول في زمن التفاهة

صناعة التفاهة لا تعمل في الفراغ،
بل تُدار بخطةٍ محكمة لإخماد الوعي وترويض الفكر.
هي لا تهاجمك بالرصاص، بل تسرق وعيك بالضحك،
ولا تسلبك عقلك بالقوة، بل بالإغراء.


📺 الإعلام: السيرك الكبير

على الشاشات، التفاهة ترتدي بدلة أنيقة.
برامج “الترفيه” تحوّلت إلى ساحاتٍ للضجيج،
يعلو فيها صوت المهرّج على صوت الفكرة.
مذيعٌ يصرخ، وضيفٌ يضحك بلا سبب،
والجمهور يصفّق وهو لا يدري لمن ولماذا.
إنه الفراغ الملوّن الذي يملأ ساعات البث ليُفرغ العقول من أي معنى.


📱 السوشيال ميديا: جمهورية الوهم

هناك، صار اللاشيء مهنةً تُدرّ الملايين.
شابٌ يتصنّع الغباء ليحصد “المتابعين”،
وفتاةٌ تبيع تفاصيل حياتها اليومية كأنها سلعة في مزادٍ علني.
وكلّما ازداد الانحطاط، زادت نسب المشاهدة.
لقد صارت الشهرة بلا قيمة… سوى أن تكون شهيرًا.
تلك هي العبودية الحديثة: أن تبحث عن “اللايك” بدل الحقيقة.


🎤 الفن: حين يغنّي الفراغ

في زمنٍ كانت فيه الأغنية تُعلّم وتُطهّر،
صارت الآن تُكرّس الغباء وتُربّي السطحية.
كلمات كأنها خرجت من هاتفٍ فارغ،
تُكرَّر بلا روح ولا معنى،
تحت لحنٍ صاخب يغطّي على العجز الإبداعي.
الفن، الذي كان ضمير الأمة،
تحوّل إلى أداة تنويم جماعي تُخدّر الأذواق وتقتل الحلم.


🏛️ الثقافة والسياسة: الواجهة المصقولة

المهرجانات تُمنح لمن يعرف من، لا لمن يعرف ماذا.
الجوائز تُوزَّع كالهدايا لا كالتقدير.
أما المثقف الحقيقي، فيُقصى لأنه يُزعج المنظومة.
وفي السياسة، يتحدثون عن “الوعي الجمعي” وهم أول من يسعى لاغتياله.
التفاهة هنا ليست سهوًا… بل قرارًا إداريًا.


💰 المجتمع: حيث المظاهر تصنع الإنسان

صار التافه نجمًا، والمثقف عبئًا،
وصار الحكم على الناس بما يملكون لا بما يفكرون.
يتزوجون بالمظاهر، ويتفاخرون بالسفاهة،
ويغارون ممن يملك لا ممن يفهم.
المجتمع أصبح شاشةً كبيرة تعكس خواءه الذهني.


صناعة التفاهة لا تنتج مجرد أغبياء،
بل تصنع نظامًا من الغباء يتغذّى على الإعجاب،
ويعيش في ظلال الجهل الجماعي.

إنها أخطر من الحروب،
لأنها لا تقتل الجسد، بل تُخدّر الوعي وتُعيد تشكيل الإنسان على مقاس القطيع.


🌅 كيف نكسر حلقة التفاهة؟

كسرُ حلقة التفاهة لا يكون بالهروب منها،
بل بفضحها.
فالتفاهة لا تعيش في النور،
بل في ظلّ التصفيق الأعمى والاعتياد البليد.

أولًا: أن نميّز بين القيمة والضجيج،
بين من يُفكّر ومن يُثرثر،
بين الفنّ الذي يوقظ الوجدان،
والفنّ الذي يرقّص الغرائز.

ثانيًا: أن نعيد الاعتبار للمعنى،
أن نقرأ لا لنحشو عقولنا بالمعلومات،
بل لنرى العالم بعيونٍ جديدة،
وأن نصغي إلى العقل لا إلى الجوقة.

ثالثًا: أن نحتقر الشهرة الفارغة،
فليس كل من لمع نجمًا،
وليس كل من غاب عجز.
بعض العقول تختار الظل لأنها أسمى من الضوء الملوّث.

وأخيرًا: أن نعيد الإنسان إلى مكانه الطبيعي،
لا تابعًا للموجة،
بل صانعًا للمعنى،
مسؤولًا عن وعيه،
مؤمنًا أن الفكر مقاومة،
وأن الكلمة حين تُكتب بصدق،
تستطيع أن تهزم جيشًا من الأغبياء.


صناعة التفاهة لن تنتهي ما دام هناك من يستهلكها،
لكنها تضعف حين ينهض العقل،
وحين نعيد للإنسان إنسانيته قبل أن يتحول إلى رقمٍ في قطيعٍ كبيرٍ من المنبهرين باللاشيء.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.