الصوفية السياسية:
هندسة القطيع وتخدير الوعي
بقلم: محسن عباس
من أخطر ما أصاب المجتمعات ليس الاستبداد نفسه، بل التحوّل البطيء نحو عقلية الصوفية السياسية؛ ذلك النمط الذهني الذي يجعل القطيع يظن أنه يُفكِّر، ويجعل المفعول به مقتنعًا أنه الفاعل، ويجعل الإنسان يتنازل عن إرادته وهو يحتفل بأنه “اختار”.
الصوفية السياسية لا تأتي بمدفع ولا بانقلاب…
تأتي بابتسامة، بموعظة، بخطاب رقيق يدفئ القلب ويُخدِّر العقل، بخطوة ناعمة تُحوِّل الشعب تدريجيًا إلى “مريدين” دون أن يشعروا.
إنها ليست عقيدة… إنها عملية جراحية في الوعي دون بنج.
الصوفية السياسية: تحويل الدولة إلى ضريح كبير
في الدولة الصوفية—التي لا تعلن نفسها صوفية—تتحول السلطة إلى “شيخ طريقة”، ويصبح الزعيم كائنًا فوق التاريخ، فوق القانون، فوق النقد، وفوق البشر.
المواطن هنا لا يُعامل كفرد له حقوق، بل كـ مريد عليه أن “يتأدب”، أن “يلتزم”، أن “يفهم المصلحة”، وأن يردد الأدعية الوطنية الجاهزة التي تُكتب له في نشرات الأخبار.
ولا يهم أن تنهار المؤسسات…
ولا أن يتدهور الاقتصاد…
ولا أن يسقط التعليم…
فكل شيء “له حكمة عليا”.
من يجرؤ على السؤال يصبح خارج “الطريقة”.
دولة بلا عقل… مجتمع بلا إرادة
ما أخطر الصوفية السياسية؟
أنها تبني مجتمعًا يتبادل الطمأنينة الوهمية.
كل واحد يهدّئ الثاني بكلمات فارغة:
“الدنيا هتتزبط”،
“الكبير شايف”،
“الحكمة هتظهر”،
“سيبها على الله”.
وكأن الله كُلِّف بإدارة الفشل.
الصوفية السياسية تصنع شعبًا يرى الانهيار… ويستدعي له مهدئًا روحيًا بدل أن يواجهه.
تصنع إنسانًا فاقد الشجاعة لكنه يدّعي الرضا.
فاقد الفعل لكنه يتحدّث بثقة.
فاقد الحق لكنه يبتسم كأن شيئًا لم يكن.
هي ليست تمجيدًا للروحانية…
بل قتل بطيء للعقل.
الصوفية السياسية: عندما تُصبِح الطاعة قيمة أخلاقية
كل منظومة استبداد تعتمد على ثلاث أدوات:
-
خطاب يُخدِّر
-
زعيم يُقدَّس
-
شعب يُعاد تشكيله
لكن الصوفية السياسية تضيف شيئًا أخطر:
تحويل الطاعة نفسها إلى فضيلة.
تُحوِّل الاستسلام إلى خلق نبيل،
والصمت إلى أدب،
والخوف إلى حكمة.
حتى يصبح المواطن مقتنعًا أن اعتراضه “قلة تربية”، وأن سؤاله “تجرّؤ”، وأن رفضه “جهل”.
وهكذا…
تولد أجيال كاملة تعتبر الخضوع فعلًا حضاريًا، وتعتبر الذل أسلوب حياة.
الخاتمة: الصوفية السياسية أخطر من كل الديكتاتوريات المعلنة
الصوفي السياسي ليس زاهدًا…
هو زاهد في عقله فقط.
منسحب من الواقع، لا يراه إلا من خلال هالة “الولي الأكبر”—مهما كان اسمه: رئيس، شيخ، حزب، مؤسسة.
إنها صوفية بلا ذكر…
وبلا روح…
وبلا سماحة…
مجرد خيال سياسي مريض يربّي شعوبًا بلا إرادة، بلا وعي، وبلا قدرة على الفعل.
وحين يتحوّل الملايين إلى مريدين…
تصبح الدولة نفسها مفعولًا بها، تائها بين الأوهام، محتفلة بانتصارات لا وجود لها.


0 التعليقات