🌍 الثقافة: قيمة وجودية، لا ترف ذهني
دعوة معمقة لإعادة تعريف الوعي والإنسان
🖋️ بقلم: محسن عباس
🪞 مقدّمة: في زمن الاختزال وسقوط المصطلحات
في زمنٍ يزدحم فيه الضجيج حدَّ الصمم، وتُختزل فيه العقول في أرقامٍ جامدة على شاشاتٍ مضيئة، حيث يطغى الهامش على الجوهر وتُستبدل القيمة الحقيقية بالاستهلاك السريع والمحتوى اللحظي، تبرز الإشكالية الكبرى التي تحدد مصيرنا الجمعي: هل نعرف حقًّا ما نقول حين نتحدث عن الثقافة والمعرفة؟
المشكلة التي تواجه إنسانيتنا اليوم ليست في الجهل الصريح فحسب، بل في آفةٍ أشدّ خطرًا وعمقاً: المعرفة المزيّفة (Disinformation)، تلك التي تتنكر ببراعة في ثياب المصطلحات البراقة، فتُضلّل العقول باسم "التنوير الزائف"، وتُقصي المختلف تحت شعار "الحرية المجوّف". إن هذا التضليل ليس عجزاً في الفهم، بل هو مشروع مقصود لتفتيت الوعي.
🧩 الإشكالية الأولى: الثقافة كقاعدةٍ للتعايش الإنساني وسلامة الفكر
إنّ المعرفة الحقيقية، بمصطلحاتها الدقيقة والمعبرة عنها، هي حجر الأساس الذي يقوم عليه النقاش الحرّ المتمدّن. إننا لا نتحدث هنا عن مجرد حوار عابر أو جدل فكري، بل عن عملية بناءٍ أخلاقي (Ethical Construction) تهدف إلى تأسيس فضاءٍ مشترك آمن، لا يزيح الآخر ولا يُلغيه بسبب معتقدٍ أو فكرٍ أو لونٍ أو جنس.
الخطر يكمن في إفقار اللغة: حين تُفرغ مصطلحات مثل "التسامح" و"الحرية" من محتواها الدقيق وتُحوّل إلى شعارات جوفاء، يفقد المجتمع القدرة على بناء الجسور. الثقافة الأصيلة هي الرافعة التي ترفعنا من مستوى الانفعال القبلي و"ثقافة رد الفعل" إلى مستوى الفهم الواعي والتعاطف المعرفي والقبول المتبصر.
لهذا السبب الجوهري، لا يمكن النظر إلى الثقافة بوصفها رفاهية أو نشاطًا ترفيهيًا على جدول الأعمال. إنها من أثقل الصناعات الإنسانية وأعمقها أثرًا؛ فهي البنية التحتية الصلبة التي تمنع الانهيار الروحي وتوفر المناعة ضد الانغلاق والتطرف.
💫 الإشكالية الثانية: الثقافة وفنّ إشباع الوجدان والتحرر من المادية
الثقافة الحقيقية ليست تراكمًا معلوماتيًا كمياً، بل هي فنّ إشباع وجدان الإنسان. هي تحوّل معرفي يغير خارطة الروح، ويؤثر في السلوك والشعور. إنها عملية السمو والرفعة بمعناهما الأصيل: أن تدرك، وتستشعر، وتفعل كإنسانٍ كامل الأبعاد، متجاوزًا حيّز المادة والاستهلاك.
إنها تمنح الفرد قيمةً مستقلة وذاتية، لا تلك المشتقة من حجم الثروة أو قوة الانتماءات الضيقة أو عدد المتابعين. وفي هذا السياق، تصبح الثقافة مقاومة وجودية: مقاومةً لمحاولات اختزال الروح البشرية في أرقام بيانية، ومقاومةً عنيفة لمحاولات تفتيت الهوية الفردية لصالح منطق القطيع أو السوق.
⚠️ أزمة الغثّ الفكري: فخ النخبة الزائفة وتجريد الإنسان
علينا أن نتحمّل مسؤولية التمييز بين الثقافة الحقيقية والغثّ الفكري الذي يغزو المنصات تحت أقنعة "النخبة" و"رواد الرأي". هذا الغثّ لا يهدف إلى التنوير، بل إلى قتل الإنسانية في الإنسان ذاته. إنه يسعى لتجريد الفرد من قيمته الوجودية حتى لا يبقى من وجوده إلا رقمٌ هامشيّ على يسار الحياة — مجرد مستهلك سهل التوجيه، تابع، أو ملفّ إحصائي ضمن آلة ضخمة.
أمثلة على الغث: المحتوى الذي يشجّع السطحية، الاحتفاء بالفضائح كإنجاز ثقافي، استخدام الفن للتخدير بدلاً من التفكير، وتقديم الآراء الشخصية غير المؤصَّلة كـ"حكمة".
🕯️ خاتمة وتساؤل: كيف نُفعل الثقافة وننتصر للوجود؟
إنّ الثقافة، بمعناها الوجودي، هي خطّ دفاعنا الأخير ضد التسطيح والانقراض الروحي. لا يكفي أن نستهلكها، بل يجب أن نُمارسها كطريقةٍ للعيش.
السؤال الآن ليس ما هي الثقافة؟ بل كيف نصنعها ونُفعلها في حياتنا؟
الإجابة تكمن في ثلاثة محاور عملية:
-
المراجعة اللغوية والفكرية (التدقيق): العودة إلى تدقيق المصطلحات والمفاهيم، وعدم السماح باستغلالها كأقنعة لتمرير الأفكار المضللة. علينا أن نكون قوّاسين للمعاني.
-
استثمار الوجدان (التوجيه): توجيه الفنون والآداب والمعارف نحو إثراء العمق الداخلي، لا مجرد ترفيه السطح. فلتكن الأعمال الثقافية محرّكًا للتأمل لا لقتل الوقت.
-
رفض الرقمنة الوجودية (المقاومة): مقاومة كل محاولة لتحويل الإنسان إلى رقمٍ أو ملفٍّ إحصائي ضمن خوارزميات، والتأكيد على قيمته التي تتجاوز الشاشة. علينا أن نخصص وقتًا لـ"فضاء ما وراء الشاشة".
الثقافة الحقيقية إذن هي الفعل المقاوم الواعي،
هي المسؤولية الوجودية لكلّ فردٍ يرفض أن يكون هامشًا،
ويسعى لأن يكون جوهرًا.
فلتكن الثقافة مشروعنا الأثقل والأجمل... لننتصر لإنسانيتنا.


0 التعليقات