على طرف السرير

  على طرف السرير

✍️
قصة قصيرة بقلم: محسن عباس


🪞 قراءة تمهيدية
في نصّه "على طرف السرير"، يقدّم محسن عباس تجربة سردية مكثّفة تتجاوز سطح الحدث لتغوص في عمق الوعي الأنثوي، حيث يتقاطع الجسد مع الذاكرة، والحب مع الخسارة.
لغة الكاتب لا تُغري بقدر ما تُفكّر؛ فهي تنسج عالمًا بين الواقعي والرمزي، بين الرغبة والصمت، لتكشف عن هشاشة الإنسان حين يُختزل في دوره، لا في ذاته.
إنها كتابة تُعيد تعريف العلاقة بين الأنثى والجسد، بين الزواج والحرية، بين الحلم واليقظة.
🕯️ النص الموسَّع
جلستُ على طرف السرير، بالكاد أسند ظهري إلى حافته القارسة.
الحرير الفضي الذي كان بالأمس رمزًا لبدايةٍ خيالية، يلتف حولي اليوم كعبءٍ ثقيل يلامس بشرتي اللاهثة.
لم يكن جسدي وحده الذي يئن؛ روحي أيضًا، تلك الروح التي خاضت معركةً لم تستعدّ لها، مُثقلة بالوعود والموسيقى الباهتة.
تذكرتُ ضحكات الأهل ورائحة الحلوى، كل تلك الطقوس التي وعدت بنهاية سعيدة،
وها هي النهاية تتركني وحيدة في بداية صباحٍ باردٍ كهذا.
نظرتُ إليه. أنفاسه منتظمة وهادئة، وابتسامة خفيفة تعبر محيّاه.
بجواري ينام، وقد انتهى دوره في المشهد.
وتبقى الشهادات والأوراق والعقود شاهدةً صامتةً على ما يسمّونه “زواجًا”.
تذكرتُ همسه الأخير قبل أن ينام — كلمة شكرٍ عابرة لم تلامس تعبي الحقيقي —
كانت موجهة للجميل والمُتاح، لا للشخص المُنهك.
لم يكن لديه أي فضول لمعرفة ما إذا كنت بخير.
لم يسأل عن الثمن.
وكأن تحمّلي كان جزءًا من الاتفاق الغائب.
وبينما أُناضل لأُسند نفسي، كانت الكلمات تتراكم في داخلي، تحترق،
لتتجه نحو الجزء الذي شاركني الحكاية بصمتٍ ودمٍ ووجع:
"هل ارتحتِ الآن؟ هل انتهى العرض الذي كان يجب أن يستمر لأجلنا نحن؟"
همستُ لنفسي، والدموع تحجّرت تحت جفوني:
إن كانت الإجابة نعم، فهذا يعني أن كل شيء — آلامي، خوفي، تحمّلي الصامت —
كان ثمن راحته وحده.
وإن كانت لا، فماذا فعلنا إذن؟ ما الهدف من كل هذا الخراب الصغير؟
شعرتُ بالبرودة تزحف تحت أصابعي،
برودة لم تأتِ من النافذة الموصدة، بل من إدراك الفجوة الهائلة بين التوقع والواقع.
لم يكن الأمر يتعلق بالإرهاق الجسدي فحسب؛ بل بالإرهاق من تجسيد دور العروس المثالية حتى في لحظة الانهيار.
الإرهاق من الحفاظ على صورة المرأة التي يجب أن تكون قوية، حتى وهي تنزف.
قمتُ بصمتٍ ثقيل، وصرير الألواح تحت قدمي يُدكّ أرض الواقع القاسية.
دخلتُ إلى الحمّام، مُنْكسرةً من فكرة أن كل شيء يجب أن يُخفى.
خَلعتُ ذلك الروب الستان المُترف، كأنني أتخلص من جلدٍ لا يخصني.
نظرتُ إلى الثياب الملقاة، فرأيتُ عليها بقايا الألم، بقايا اللون الأحمر القاني،
كان الوشم الأول لزواجنا، شاهداً صامتاً على التكلفة التي لم يَرَها أحد.
كانت تلك القطع القماشية هي الضحية الملموسة الوحيدة التي يمكنني التعبير من خلالها عن الغضب.
لم يكن المطلوب مني أن أتحمّل الألم فقط، بل أن أُنظّفه أيضًا.
أن أُعيد النظام إلى المكان قبل أن يفتح عينه.
أن أغسل كل ما تبقّى من أثرٍ للحكاية، أن أُعيد ترتيب مسرح الجريمة،
أن أُعيد الجسد إلى صمته الأول، كي ينام العالم كله في راحته دون أن يُفزعه صوت وجعي.
وقفتُ تحت الماء، أُحاول غسل ما لا يُغسل.
كان كل بخارٍ يتصاعد في الغرفة يحمل معه سؤالًا مؤجلاً.
مررتُ يدي على جسدي، شعرت بضعفه وبقوته التي اضطرته للتحمل.
بينما السؤال ينطلق من الأعماق، من ذلك الجزء الذي ضحّى بلا صوت:
"هل أنتِ الآن بخير؟
هل استحقّ هذا التعب أن يُسمّى حبًّا؟
هل يستحقّ أن يكون هذا أول فصلٍ في قصتنا؟"
خرجت. لم أعد إلى السرير على الفور، بل وقفتُ للحظة أمام النافذة،
أبحث عن ضوءٍ يتيمٍ لم يشرق بعد، عن وعدٍ صادقٍ لم يُقال.
كان ما زال نائمًا، يبدو في سلامٍ لا أستطيع أن أفهمه.
ولأول مرة، لاحظتُ تجعيدةً صغيرة عند زاوية فمه،
ربما أثر تعبٍ آخر ليس لي علاقة به، أو ربما تعبٌ قادم.
مددتُ يدي ببطء، ولمستُ حافة الوسادة التي ينام عليها،
شعرتُ بدفئها الغريب، ثم سحبتُها بسرعة قبل أن يفيق.
أدركتُ حينها أن الحكاية لم تكن عن الحب وحده،
بل عن توزيع الأدوار والتضحيات،
وأن دوري — ودورها — قد بدأ للتوّ،
حاملين عبء المشهد كله على كتفٍ واحد،
ومرغمين على تعلّم الصمت،
مع علمي بأن صمتي اليوم هو أول ثمنٍ لغدٍ قد لا يأتي فيه الكلام.
التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.