الفساد المعرفي…
الوباء الصامت الذي يفتك بالعقل العربي
مقدمة: حين يمرض العقل قبل أن يخطئ السلوك
في زمن تتدفق فيه المعلومات بلا حدود، لم يعد الخطر الأكبر هو الجهل، بل ما يمكن تسميته بـ الفساد المعرفي؛ ذلك الانحراف الصامت الذي يبدأ في اللغة وينتهي بكوارث في الفكر، وفي الطريقة التي ننظر بها للعالم.
إنه الفساد الذي لا تُكتشف آثاره فورًا، لكنه يخرّب جذور الوعي على مهل، ويزرع وهمًا بالمعرفة بينما الحقيقة غائبة.
الدرجة الأولى: العبث بالمفاهيم واستخدامها في غير مواضعها
أولى درجات الفساد المعرفي تظهر حين يبدأ البعض في استخدام المصطلحات العلمية أو الفلسفية أو الدينية خارج سياقها الصحيح، ثم الدفاع عنها بيقين يرفض أي شك.
هذا الاستخدام المغلوط يشبه وضع دواء في غير مرضه؛
لا يعالج، بل يفاقم.
فحين تُبنى الأفكار على مفاهيم مشوهة، تصبح نتائج التفكير واستنتاجاته فاسدة أيضًا، مهما بدت منطقية في ظاهرها.
الدرجة الثانية: التعالي على الثقافة واعتبارها رفاهية
العقل الفاسد معرفيًا لا يرى الثقافة قيمة، بل يرى فيها ترفًا فارغًا لا جدوى منه.
والحقيقة أن الثقافة ليست رفاهية، بل هي الساحة الأم التي تتخلق فيها كل معرفة، بما فيها المعرفة المتخصصة.
من يزدري الثقافة يظن أنه يملك الحقيقة دون قراءة، ودون تأمل، ودون احتكاك بالتراث الإنساني، فيسقط في فخّ السطحية مهما بلغ من خبرة مهنية أو اجتماعية.
الدرجة الثالثة: تقديس الرأي لأن صاحبه “كبير” أو “قائد”
هنا يبلغ الفساد ذروته.
حين يعتقد الإنسان أنه على حق دائمًا، لا لأن رأيه صحيح، بل لأنه:
الأكبر سنًا
الأب
القائد
صاحب السلطة
أو أي صفة تمنحه شعورًا بالتفوق على الآخرين…
عندها يتحول الرأي إلى محكمة نهائية بلا استئناف، ويتحول الحوار إلى تهمة، والنقد إلى جريمة.
هذه العصمة المصطنعة تصنع مجتمعات كاملة تسير خلف لوحات زائفة من “الهيبة”، بينما الحقيقة مُصادرة.
خاتمة: هل يمكن إصلاح الفساد المعرفي؟
نعم… لكن الإصلاح يبدأ من إعادة بناء العلاقة مع الحقيقة، وتحرير العقل من يقينياته المريحة، ومن أوهام التفوق، ومن الكسل الثقافي.
فالأمم لا تنهض بالثروة وحدها، بل بقدرتها على تنقية عقولها من التشويه، وجعل المعرفة فعلًا يوميًا لا شعارًا مناسباتيًا.
إن الفساد المعرفي ليس مجرد خطأ فكري، بل مرض حضاري؛
وإن إنقاذ الوعي منه هو الخطوة الأولى نحو مجتمع يملك القدرة على التفكير، لا مجرد القدرة على الكلام.


0 التعليقات