حين صار المال إلهًا: تفكيك فلسفة المادية الجديدة

 

حين صار المال إلهًا:

 تفكيك فلسفة المادية الجديدة

بقلم: محسن عباس



مقدمة: عصر يعبد المال دون أن يعترف

ما نعيشه اليوم من اضطراب فكري وتدهور سلوكي ليس حدثًا عابرًا، بل نتيجة عملية تاريخية طويلة أعادت تشكيل الإنسان نفسه: وعيه، قيمه، أولوياته، ورؤيته للعالم. لقد تحوّل المجتمع تدريجيًا إلى بنية مادية خالصة، يُقاس فيها الإنسان بما يملك لا بما يقدّم، وبما يحقق من مكاسب لا بما يحمله من قيم. هذه ليست مجرد ملاحظة اجتماعية… إنها علامة على انقلاب حضاري كامل، يضع الرمز المادي فوق الوجود الإنساني الحقيقي.


أولًا: الجذور الفلسفية والنشأة السياسية للمادية

لم تظهر “عبادة المال” في فراغ، بل خرجت من رحم فلسفات اقتصادية وسياسية تبلورت بوضوح في ثمانينيات القرن الماضي على يد مارغريت تاتشر ورونالد ريغان، حين رُفع شعار “تحرير السوق” و“الحرية الاقتصادية” كحل سحري لمشاكل العالم. لكن خلف هذا الشعار، كان المشروع الحقيقي واضحًا: تفكيك الإنسان، وبناء مستهلك جديد، مطيع، قابل للتوجيه، ومنفصل عن قيمته وأخلاقه الجوهرية.

ففي هذه المنظومة:

  • تصبح السوق مركز العالم، والقانون الوحيد الذي يحكمه هو قانون العرض والطلب.

  • تتحول العلاقات الإنسانية والاجتماعية إلى مجرد معاملات تجارية باردة قائمة على المنفعة المتبادلة اللحظية.

  • يُختزل النجاح البشري في رقم مادي (الرصيد المصرفي أو القيمة السوقية).

  • ويتم إلغاء أي قيمة لا تُقاس أو تُباع (كالأمانة، والتعاطف، والعمق الفكري).

لقد بدأ الانهيار من هنا… عندما جرى إقناع الناس بأن الإنسان "وحدة إنتاج"، وأن الأخلاق "ترف يمكن الاستغناء عنه"، وأن الروح "زائدة" لا قيمة اقتصادية لها.


ثانيًا: إعادة برمجة الإنسان وتسطيح الوعي

لم تُفرض هذه المنظومة بالقوة، بل عبر “إعادة برمجة ناعمة” مورست على الوعي الجمعي من خلال آليات التعليم والإعلام والثقافة الجماهيرية. لقد تم تغيير المفاهيم كلها بشكل جذري، عبر أدوات التسويق المستمر وإغراء الاستهلاك:

  • صار الطمع لا يُنظر إليه كعيب، بل كـ طموح مشروع وضرورة للنجاة.

  • صار الغش والالتفاف على القانون يُوصف بـ الذكاء والفطنة التجارية.

  • صارت السطحية وتبسيط القضايا المعقدة تُعد بساطة محبوبة.

  • صار الانتهازي الذي يتسلق على حساب الآخرين يُنعت بـ "العملي" القادر على اتخاذ قرارات صعبة.

هكذا تشكّل إنسان جديد يقيس نفسه وينظر لغيره بمنطق الربح والخسارة فقط، فقد بوصلته الأخلاقية وأصبح "إنسان الماركة" الذي تستمد قيمته من العلامة التجارية التي يرتديها أو يستهلكها.


ثالثًا: المجتمع في قبضة السوق وموت القيم البطيء

لم يعد المال مجرد وسيلة لتحقيق حاجات الحياة... بل أصبح معيارًا للوجود، بل وأداة للتحقق الاجتماعي والنفسي. المجتمع كله أعاد ترتيب سلّمه القيمي وفق منطق مادي صارم، فتم تجفيف منابع القيمة لصالح ما يمكن بيعه وتسويقه وتحصيله:

  • الفنان الناجح: هو الأكثر رواجًا وضجيجًا، لا الأكثر عمقًا أو أصالة.

  • الكاتب "المؤثر": هو صاحب التريند وسرعة الانتشار، لا صاحب الفكر الرصين.

  • الأكاديمي "الهام": هو الذي يظهر في الإعلانات والمحافل التجارية، لا الذي يضيف بجهده للمعرفة الإنسانية.

لقد ذابت النخب بكل أنواعها — سياسية وفنية وثقافية — في تيار المنفعة، خوفاً من التهميش، ليصبح هذا عصر النجومية الزائفة والسطحية المعولمة والفراغ المرموق الذي يتباهى بأرقام المتابعين بدلًا من عمق الأثر.


رابعًا: الآثار النفسية والاجتماعية.. العزلة والهشاشة

لم تتوقف تبعات المادية على تدهور الأخلاق، بل امتدت لتفتت بنية الإنسان الداخلية والمجتمع. عندما يتحول كل شيء إلى سلعة، يصبح الإنسان نفسه سلعة قابلة للاستبدال، مما يولد:

  • العزلة الاجتماعية: فالعلاقات مبنية على المنفعة، وتنهار بمجرد انتهاء هذه المنفعة، ليجد الفرد نفسه وحيداً رغم كثرة علاقاته السطحية.

  • القلق والهشاشة: السعي اللانهائي وراء المزيد من المال يخلق حالة دائمة من القلق خوفاً من السقوط أو خسارة ما تم جمعه. قيمة الإنسان ترتبط بما يملك، وهذا الرابط هش وقابل للكسر في أي لحظة.

  • الاستهلاك القهري: يصبح الاستهلاك وسيلة لسد الفراغ الروحي والتعويض عن غياب القيمة الحقيقية، فيدور الفرد في حلقة مفرغة من العمل الشاق لشراء ما لا يحتاجه.


خامسًا: عبودية طوعية تحت ستار الحرية

المأساة ليست في تقديس المال، بل في أن هذا التقديس يُمارَس اليوم طواعية. فالفرد لم يُجبر على السجود لهذا الإله الجديد... بل ذهب إليه بإرادته، مقتنعًا بأنه الطريق الوحيد للنجاة وتحقيق الذات.

هذه أخطر أنواع العبودية: العبودية التي تتخفّى في هيئة حرية، حيث يعتقد الفرد أنه يمارس "اختياره" الحر، بينما هو في الحقيقة يخدم المنظومة المادية التي أعادت برمجته.

لقد صار المال “إلهًا حديثًا” بلا طقوس، بلا معابد ملموسة... لكن القرابين تُقدَّم له كل يوم: من الضمير، من الصدق، من الكرامة، من العلاقات الإنسانية، من الوقت، ومن الروح ذاتها.


سادسًا: الثورة المطلوبة.. وعي لا قنابل

لا سبيل لاستعادة الإنسان من هذا السقوط واستعادة كرامته إلا بثورة ثقافية حقيقية وإعادة تأسيس للوعي. ثورة لا ترفع السلاح، بل ترفع الوعي والمساءلة النقدية لما يروج له السوق. ثورة تعيد ترتيب معاني:

  • القيمة: بأنها ليست قابلة للقياس المادي.

  • الكرامة: بأنها فطرية لا تحتاج لتمويل.

  • النجاح: بأنه مرتبط بـ الأثر لا بـ الرقم.

  • الإنسان: بأنه كيان روحي وأخلاقي قبل أن يكون كيانًا استهلاكيًا.

ثورة تعلن بوضوح أن: الغنى الحقيقي في ما نحن، لا في ما نملك. وأن الإبداع لا يُقاس بعدد المتابعين، وأن الروح ليست سلعة، ولا الوعي منتجًا قابلًا للتسويق.


خاتمة: أمل لا ينطفئ

رغم كل ما سبق، لم ينتهِ كل شيء. فما زالت هناك قلة صادقة — قليلة جدًا — تقاوم الطوفان، وتذكّرنا بأن القيمة لا تصنعها السوق، وأن الإنسان أعظم من ماله، وأكبر من رصيده. النجاة تبدأ دائمًا من خطوة صغيرة: أن نعيد النظر في معنى القيمة... ومعنى الإنسان... ومعنى أن نحيا بكرامة في عالم يحاول اختزالنا إلى مجرد أرقام.

والله أعلى وأعلم.

التعليقات
0 التعليقات

ليست هناك تعليقات :

إرسال تعليق

مولانا تصميم ahmad fathi © 2014

يتم التشغيل بواسطة Blogger.